الجمعة، مايو 08، 2009

الأحلام

اخذ المحاضر يقدم نفسه لنا في اليوم الأول من الدراسة، ثم تحدانا ان كنا نستطيع التعرف على شخص لم يتسن لنا الالتقاء به من قبل. نهضت ونظرت حولي في القاعة المكتظة بالطلاب، وإذا بيد ناعمة تربت على كتفي في حنو. استدرت، فوقع بصري على وجه أنهكته التجاعيد، كانت سيدة مسنة قصيرة القامة نوعا ما، وكانت تنظر إلي بينما ابتسامة بهية تشع من محياها. قالت: مرحبا، أيها الوسيم. اسمي روز، ابلغ سبعة وثمانين عاما. هلا سمحت لي بمعانقتك؟
ضحكت، ثم أجبتها بحماس: بالطبع يمكنك ذلك! وقبل ان أكمل جملتي، إذا بذراعيها النحيلتين تطوقاني تكاد تعصرني عصرا. قلت لها: ما الذي يدعوك للدراسة في الكلية وقد بلغتي من العمر عتيا، وانت في عمر البراءة هذا؟ ردت عليّ مازحةً: أتواجد هنا علّني اعثر على زوج غني، أتزوج، ارزق بطفلين، ثم احصل على التقاعد وأسافر. قلت لها: لا، أنا جاد. وكانت تجتاحني رغبة قوية لمعرفة سر تكبدها هذا العناء وقبولها تحدي الدراسة في الكلية وهي في هذه السن المتقدمة. قالت: لطالما حلمت، ان احصل على تعليم جامعي، وها أنذا الآن يبدو أنني وفقت بالعثور على هذه الفرصة!. ذهبنا بعد نهاية المحاضرة إلى مبنى اتحاد الطلاب، ودعوتها لتناول كوبا من الحليب المخفوق بالشوكولاتة. يبدو أننا أصبحنا أصدقاء بسرعة. كان يحلو لنا بعد انتهاء المحاضرة الجلوس سوية كل يوم على مدى ثلاثة أشهر، ونظل ندردش سوية دون توقف لفترة طويلة من الوقت. كنت مفتونا بالإصغاء إلى حديثها الجزل، وهي تشاركني حكمها وخبراتها في الحياة. وبمرور الأيام، أصبحت روز أيقونة الحرم الجامعي، واستطاعت ان تكوّن بسهولة صداقات أينما حلّت. كانت تحب ان تبدو في أبهى زينة الأمر الذي جذب إليها انتباه الكل. وكانت تبدو مفعمة بالحياة. في نهاية الفصل الدراسي دعونا روز لإلقاء كلمة خلال المأدبة التي أقمناها على شرف فوز فريق كرة القدم. ولن أنسى أبدا ما تعلمته منها. صعدت إلى المنصة، لتلقي كلمتها التي أعدّتها مسبقا، وسقطت منها الورقة على الأرض. دنت من لاقط الصوت، وقالت بنبرة يشوبها الإحباط والحرج: آسفة، لأنني اشعر بشيء من النرفزة، هذه أول مرة أواجه فيها هذا الحشد الكريم، وأخشى إنني لن استطيع إلقاء كلمتي كما ينبغي، لذا اسمحوا لي أن ارتجل لكم ما في جعبتي.
وبينما طفقنا نضحك، تنحنحت ثم قالت: نحن لا نكف عن اللعب لأننا كبرنا، بل نحن نشيخ لأننا نكف عن اللعب. ثمة أسرار قليلة تعلمنا كيف نحتفظ بشبابنا على الدوام ونظل سعداء، وننجح في تحقيق طموحاتنا، ينبغي ان نسعى لزرع الابتسامة، وإشاعة جو المرح بين الناس دائما. يجب على كل واحد منكم أن يكون لديه حلم. عندما يفقد الواحد منا حلمه، يذبل ويموت!
صمتت لبرهة وهي تمسح بعينيها الحضور الذين كانوا يتابعونها باهتمام بالغ، ثم استطردت قائلة: هناك فرق كبير بين التقدم في السن والنمو. فإذا كنت في التاسعة عشر من العمر، ونمت لمدة سنة كاملة، ولم تفعل ولا عملا منتجا واحدا أو شيء ذي قيمة على الإطلاق، سوف تبلغ العشرين. إذا كنت أنا في السابعة والثمانين وبقيت في فراشي لمدة عام، ولم أقم بعمل أي شيء، سأنتقل بلا شك إلى الثمانية والثمانين. أي شخص يتقدم في العمر وهذا لا يتطلب أي موهبة أو مقدرات معينة. الفكرة هي أن تتمكن من النمو من خلال عثورك دائما على فرصة في التغيير. نحن لا نندم أبدا. المسنون من أمثالي لا يندمون أبدا على ما فعلوا، بل نأسى على الأمور التي لم نفعلها. الأشخاص الوحيدون الذين يخشون الموت هم أولئك الأشخاص الذين يختزنون في دواخلهم مشاعر الندم والاسى على ما فاتهم. واصلت معنا روز دراستها في الكلية، وكدأبها دائما، لم تفارق البسمة شفتيها، ولم تبخل بإسدائنا النصح أبدا، وكانت عبارة عن شعلة متقدة من النشاط والحيوية، وما فتئت تلهمنا كلما سنحت لها الفرصة بالكثير من الجرعات الفلسفية الهامة التي أعانتنا كثيرا في حياتنا اليومية. وفي نهاية العام حصلت روز على شهادتها الجامعية التي طالما تمنت الحصول عليها كل تلك السنوات. بعد أسبوع واحد من حفلة التخرج، أسلمت روز روحها لبارئها بسلام أثناء نومها.
تذكر: ان تقدمك في العمر يعد امرا الزاميا، اما النمو والتطوير الذاتي فهو اختياري.

0 التعليقات:

إرسال تعليق