لطالما عبرت عن رفضي في بعض المقالات والردود على كثير من الحوارات عن مفهوم الاختلاط، وقلت انه لا يوجد شيء اسمه اختلاط في الشريعة الإسلامية وإنها كلمة دخيلة علينا، والشيء المضحك المبكي في آن معا، أن هناك بعض القرارات يتم اتخاذها تارة بدافع العاطفة وتارة بدافع الاجتهاد وتارة أخرى بحجة سد الذرائع. فتتم الدعوة لاستصدار أحكام معينة تنبنى على فتاوى مستمدة من الأهواء والآراء الشخصية والعادات والتقاليد وربما المزاج، وخير مثال على ذلك عندما ظهرت أطباق التقاط البث التلفزيوني لأول مرة، فاذكر انه قامت حرب مستعرة في عدد من الدول العربية، وذهب كثير من الشيوخ إلى تحريمها على المطلق، وتحريم مشاهدة التلفزيون مهما كانت المواد التي تبث وتقدم من خلاله، وكنت إذا حاولت أن تستأجر شقة في عمارة فإن أول شيء يواجهك به صاحب العمارة تحذيره الشديد على عدم تركيب صحن لاقط على سطح العمارة بحجة أن صاحبنا يعتبره ذلك حراما.
ولم تمر إلا سنوات قليله، فثبت للناس أن ما بني على باطل فهو باطل، فسرعان ما انتشرت الأطباق الفضائية، وأخذ الشيوخ شيئا فشيئا يغضون الطرف عن تركيبها في البنايات، وفهموا أن البث الفضائي وان التلفزيون عبارة عن أداة ليست حرام في حد ذاتها إنما الحرمة تأتي من المواد التي تقدم عن طريقها، ولما كان هناك الكثير من الغث والسمين في الأثير، فيعتبر البث الفضائي والتلفزيون مثله مثل جهاز الفيديو الذي يمكنك عن طريقه أن تشاهد فيلما إباحيا فتصبح آثما، ونفس هذا الجهاز يمكنك استخدامه لتشاهد به محاضرة دينية أو شيخا يرتل القران، فيصبح ذلك الفعل حلالا وهذه أمور من البديهيات. وتفتحت مدارك الشيوخ أكثر وتنازلوا عن فتاواهم أو تناسوها لأنه لا يصح إلا الصحيح، ولأنه لا يمكن تكميم أفواه الناس بحجة سوء النية وقاعدة سد الذرائع التي تم مطها من فبل الشيوخ حتى كادت تنقطع، واستخدموها في غير ما لا ضرورة له، فضيقوا على الناس معيشتهم، وقيدوا حركتهم وتفكيرهم، وكمموا وجوه النساء وفرضوا عليهن لبس السواد، وحاولوا أن يلوون عنق الحقائق والشريعة، وقالوا لنا أن النقاب يعني الحجاب وان الحجاب لا يستقيم إلا إذا كان لونه اسود كلون الحقد والغربان، وحلفوا بأغلظ الإيمان أن أي لون آخر لملابس المرأة غير الأسود مثل الأبيض أو الرمادي يجعل من ترتديه آثمة.
ولكن ماذا يحدث الآن، ها نحن نرى ردة من قبل كثير من هؤلاء الشيوخ، إنها ردة للحق وللفطرة ولتصحيح كثير من الاعتقادات البالية والمرتبكة التي لا تسندها قاعدة صلبة، ولإشعار الناس أن الدين لا يؤخذ بالظنون والعادات والتقاليد والمزاج، وان الأصل أن كل شيء مباح في هذه الحياة ما لم يتم منعه بنص صريح، وكما تذكر الكاتبة المخضرمة بدرية البشر في مقالها أدناه اخذ بعض الشيوخ يراجعون مسلماتهم ويتنصلون مما قالوه في السابق، فتجد كثيرا من هؤلاء الشيوخ الذين كانوا يقفون سدا منيعا ضد البث الفضائي وضد مشاهدة التلفزيون على المطلق، تجدهم أول الناس الذين يهرولون الآن نحو القنوات وأدوات الفساد ليتعاقدوا معها بمئات الدولارات للظهور من خلالها، مزاحمين الممثلات ومقدمات البرامج المتبرجات، غير عابئين بما سبق وناضلوا من اجله لمحاولة كتم أي نفس يتنفسه الإنسان المسلم والمؤمن بالله حق الإيمان، فبالله عليكم إذا تحقق ما تمنوه وعشنا في عصور الظلمات ولم تنتشر التلفزيونات، من أين كانوا سيتقاضون هذه الدولارات؟ إلا تعتبر عملية عدم الثبات على الفتاوى والآراء الفقهية العاطفية إساءة لهؤلاء الشيوخ وإساءة للدين السمح العظيم الذي يمثلونه؟ وماذا يظن عنا أعداء الدين عندما يعرفون مثل هذه السلوكيات الارتدادية!! أليس من الواجب أن يتداعى علماء الأمة ورجالاتها المستنيرين ذوي الآراء المتزنة، أمثال الشيخان الجليلان القرضاوي وسلمان العودة لمؤتمر جامع تحت مظلة المؤتمر الإسلامي، يتم فيه صياغة دستور ملزم لجميع الدول الإسلامية يحدد أساسيات الدين والسلوكيات وما يجوز وما لا يجوز استنادا إلى القران والسنة بعد استبعاد كل الأحاديث التي تتصادم مع الواقع ومع المنطق والتي يدرك حتى غير المتفقه في الدين أنها لا يمكن أن تكون لها علاقة بالدين الإسلامي وأنها دخيلة عليه، ربما بحسن نية من الذي رواها كأضحوكة إرضاع الكبير، وتحميل الأحاديث التي تحذر من الخلوة فلا يفرقون بين الخلوة والاختلاط وإقحام النقاب ضمن الحجاب رغم انه لا توجد آيات ولا أحاديث صريحة تثبت ذلك وغير ذلك الكثير مما بات يحدث بلبلة واخذ الناس يعيدون التفكير فيه.
في اعتقادي أن مثل هذه الخطوة ضرورية حتى نرتاح كمسلمين من التخبط الذي نشهده حاليا في مزاد الفتاوى التي باتت تجعل حياة المسلم شديدة البلبلة، وحتى نحافظ على ديننا من أن لا يتم اختطافه من قبل مجموعة من الشيوخ العاطفيين المتشددين، اللذين رغم حسن نيتهم إلا إنهم يسيئون إليه بطريقة غير مباشرة. ويريدون أن يصوروا لنا أن الإنسان شيطان يمشي على قدمين وليس فيه جانب خير أبدا، وان الحياة ليس فيها غير (حرام/حلال)، وان الناس يجب أن تكون مثل الملائكة لا يزنون ولا يسرقون ولا يرتكبون الآثام، وقد فات عليه أو تناسوا عن عمد أن الله جعلنا كذلك لحكمة يعلمها هو، وانه لم يكن ليعجزه أن يخلقنا كالملائكة لا نرتكب آثاما أبدا ولا نعصى له أمرا. ولكن لان هذا لا يتفق مع قانون الحياة الدنيا والناموس الذي أراده الله، فجعل لكل شيء نقيض حتى يمحص الله الفاجر من التقي ويمتحن قدرته وقوة إيمانه لإتباع صراطه المستقيم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ثم عزز ذلك بوضع أنظمة شرعية صارمة، تضرب بيد من حديد على كل من يتعدى الأحكام الثابتة، فأمر بجلد الزاني وقطع يد السارق الخ... حتى يشهد عذاب من يذنبوا طائفة من المؤمنين ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه الإخلال بالأمن وارتكاب المعاصي المنصوص عليها وليعرف الناس قيمة أن تكون نظيفا، وان لا يؤخذ في تطبيق الشرع والقانون لومة لائم، فيتم تطبيقه على المفسد مهما كان، لأنه لا يوجد كبير على القانون والشرع، عملا بقول المصطفى لو سرقت فاطمة لقطع محمد يدها، وان لا يعاقب ابن الفقير ويتم التقاضي عن هفوات ابن الوزير، وبذلك يستتب الأمن. وان يستشعر ولاة الأمور عظم مسئولية أن يتقلدوا المناصب عندما تكون هذه الكراسي التي يجلسون عليها مؤقتة وطارده وغير محببة إذا كانت هناك وجوب توفر مسئولية واستعداد للمحاسبة إذا اخطأ أو سرق مال الرعية. وان يعلم انه يجب عليه أن يعطي الفرصة لإنسان آخر مؤهل ومسئول غيره بعد سنوات يتم تحديدها، حتى تنضخ دماء جديدة في الحياة، وحتى يشعر الناس أنهم يعيشون في مجتمعات مسلمة فعلا ترى أن الناس كأسنان المشط ومتساوون في الحقوق والواجبات.
هكذا يجب أن تكون الحياة... نعم ازني واسرق وافعل ما يحلو لك (إذا كنت رجل أو مجنون)، ولكن تذكر قبل أن تفعلها انك إذا وقعت في يد العدالة - ولا بد أن تقع - لان المجتمع الذي يخلو من الفساد يستحيل أن يتوارى فيه المجرم عن الأنظار، فانك أن فعلت ستواجه العقاب الرادع الذي يكنس عفنك ويرميه في مزبلة التاريخ وتكون عبرة للآخرين، وهكذا يسود الوئام والسلام بين الناس وتتضخم الروح المعنوية فيبدع كل في مجاله. وتستطيع المرأة المشي في الطرقات حاسرة الوجه واليدين دون أن يتعرض لها ابن وزير لديه ظهر يحول بينه وبين العقاب، فيحاول اغتصابها أو التحرش بها أو ترقيمها غصبا عنها دون أن يهتز له جفن لأنه يعلم أن رجال الشرطة لن يجرؤوا بالاقتراب منه، بل يمكن لهذه المرأة إذا كانت لا تخاف الله أن تسير عارية في الطرقات وهي مطمئنة أن لا احد سيجرؤ على مس شعرة في جسمها، وان الرجال سيضطرون للتحكم في شهواتهم غصبا عنهم، فرغم انه قد يحدث لقضبانهم انتصاب (وهذا طبيعي) إلا أن احد منهم لن يجرؤ على الهجوم عليها كما حاولت قطعان من الرعاع المستذئبة في القاهرة قبل فترة الهجوم على فتيات بريئات في قارعة الطريق بهمجية لا تحدث إلا في القرون ما قبل ظهور البشر. ويخاف كل مسئول من التورط في الفساد فيؤدي الأمانة لأنه يعلم انه سيحاسب، فيوزع الثروة التي ائتمنه الله عليها بالقسط والعدل على الناس، فيأخذ كل ذي حق حقه عندما تترجم إلى مشاريع وبنية تحتية وخدمات ورفاهية، وبالتالي لن يكون هناك سبب يدفع كثير من الشباب ليضطروا للسرقة أو أن يضطر موظف مؤتمن على أموال الناس باختلاس المال العام، أو يضطر مهندس يوكل إليه تنفيذ مشروع يجب أن يكون على أحدث المواصفات والمتانة حتى يصمد في وجه الظواهر الطبيعية كما كانت تصمد بنية جدة التحتية.
هكذا يجب أن تكون الحياة مبنية على التوازن وعلى النظام والضبط والربط، وان لا تكون كل الأمور سائبة (وماشية بالبركة) رغم إننا الذين اخترعنا أسس نظريات الرياضيات والهندسة، فيعيش الناس في سعادة وامن وأمان واطمئنان، وتزدهر المجتمعات وتتطور، وتصبح من القوة والعلم والمعرفة والمثالية فنكون قدوة للأمم الأخرى، فيصبح الإسلام أكثر جذبا، ومقنعا أكثر لهم بشكل عملي من دون أن نضطر لبذل جهود كبيرة ومغالطات في إقناعهم لأنهم سيرون أناس ناجحين أمامهم على جميع الأصعدة، ولن يرى مجرد أمم متخلفة تعتمد عليهم في كل شيء، لا يتم ذلك إلا عندما نصبح أقوياء من جميع النواحي بفضل العدل وقطع دابر الفساد بدءا من أعلى رأس في هرم السلطة في جميع دولنا العربية، وبذلك نستطيع أن نعد لكل عدو تسول له نفسه النيل من دولنا، رباط الخيل فنرهبهم به فيتورعون عن اللعب بالنار معنا... ولن تقوم لنا قائمة إلا إذا اهتدينا إلى تطبيق مثل هذه الحلول، وسنصبح في ذيل الأمم إلى الأبد إلى يوم الدين مستضعفين في الأرض، لان السماء لا تمطر ذهبا، وستظل دويلة سرطانية تافهة مثل إسرائيل ترهبنا رغم إننا كعرب ومسلمين نفوقهم عددا، ولكننا للأسف لا نفوقهم عتادا وعدة وتتطورا لأننا أمم متخلفة كثيرة كذا مليار نسمة ولكنها كغثاء السيل...
تبا لنا جميعا... ولا استثني منا أحدا من الماء إلى الماء.
والسلام ختام.
وأترككم مع مقال الكاتبة المخضرمة بدرية البشر الذي أوحى لي بكتابة الإدراج أعلاه:
انتهى كلام جاكس
القرار السياسي!
جريدة الحياة - الإثنين, 14 ديسيمبر 2009
بدرية البشر
لو سألت رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة، الشيخ الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي وغيره من المشايخ الذين أدلوا بآراء، تُظهر وجه الإسلام المتسامح اليسير، عن السر الذي جعل آراءهم هذه تبقى طي الكتمان حتى أمس، لقالوا لك إن الوقت لم يكن يسمح بها، وإن الإنسان لا يغامر بمعاشه وأمنه، ولا يسبح عكس التيار!
فما الذي تغيّر، وجعل معظم المفاهيم التي كان لمسها والاقتراب منها من المحرمات، لتصبح اليوم محل نقاش، قابلة للجدل والأخذ والرد، بل ويدعمها مشايخ لهم عند الناس حظوة كبيرة؟
ما الذي جعل اليوم مصطلحاً مثل الاختلاط مفهوماً دخيلاً على الإسلام وافتراءات على الدين، بعد أن كان مفهوماً وتطبيقاً محرماً، يعرّض مخالفيه للحساب؟
إن السنوات العشر الأخيرة شهدت ما يمكن وصفه بأنه انقلاب اجتماعي، فأصبحت معظم المواضيع التي اعتبرت من المحرمات والمقدسات محل نقاش، وجدل، يسمح بالرأي والرأي الآخر، وأهم هذه المصطلحات، الاختلاف على مفهوم الحجاب، وحوار الأديان، وقبول الآخر، ومحاربة الفساد والاعتراف بوجود الفقر، والشفافية والرقابة على المال العام الخ من المصطلحات التي لم يعهدها المواطن السعودي.
هذا الانقلاب ما كان ليتم لولا وجود القرار السياسي والإرادة السياسية الشجاعة، الطامحة للإصلاح.
هذا الإنجاز الكبير للقرار السياسي، وحثه على المراجعات، هو ما سمح لهؤلاء المشايخ الأفاضل بأن يتقدموا باتجاه إعلان معارفهم وقراءتهم التي تُظهر وجهاً متسامحاً في الدين ورحابة في المعاش، فأصبحت المرحلة تسمح بذلك من دون أن تعرّضهم لدفع الثمن غالياً.
ولّت تلك المرحلة التي تركت قاعدة كبيرة من الناس تغرق في مجاهل التشدد والاختناق، وزرعت الريبة في نفوسهم، وابتعدت عن حسن الظن، حتى بتنا نسمع نساء يتصلن بالمشايخ، ويسألن هل يجوز كشف شعري لعمي وخالي؟
حين كان إرهاب الناس وزرع الريبة والإثم في نفوسهم عادة عند بعض المشايخ، مما أسهم في القضاء على مظاهر الحياة العامة، الطبيعية والعفوية عندهم، وصار من التقوى ملازمة الإنسان لبيته، واعتزال الحياة في المقاهي والأسواق!!
مفهوم الاختلاط الخاطئ، قضى على المفهوم الصحيح للحياة، وهو العيش المشترك، فصار الاختلاط وحرمته بديلاً عن اشتراك الناس في معاش واحد، وحياة واحدة.
الاختلاط مفهوماً يوحي باختلاط عناصر غريبة عن بعضها، وحكم مريب تجاهها، لكن الحياة المشتركة هي ما يحدث بين الناس، وهذا ما نراه في جواب أم سلمة زوج رسول الله حين سمعت رسول الله: ينادي أيها الناس، خرجت مسرعة تلبي النداء، وحين سألتها جاريتها لكن رسول الله يقول: أيها الناس: قالت لها: وأنا من الناس.
هذا الانقلاب ما كان ليتم لولا وجود القرار السياسي والإرادة السياسية الشجاعة، الطامحة للإصلاح.
هذا الإنجاز الكبير للقرار السياسي، وحثه على المراجعات، هو ما سمح لهؤلاء المشايخ الأفاضل بأن يتقدموا باتجاه إعلان معارفهم وقراءتهم التي تُظهر وجهاً متسامحاً في الدين ورحابة في المعاش، فأصبحت المرحلة تسمح بذلك من دون أن تعرّضهم لدفع الثمن غالياً.
ولّت تلك المرحلة التي تركت قاعدة كبيرة من الناس تغرق في مجاهل التشدد والاختناق، وزرعت الريبة في نفوسهم، وابتعدت عن حسن الظن، حتى بتنا نسمع نساء يتصلن بالمشايخ، ويسألن هل يجوز كشف شعري لعمي وخالي؟
حين كان إرهاب الناس وزرع الريبة والإثم في نفوسهم عادة عند بعض المشايخ، مما أسهم في القضاء على مظاهر الحياة العامة، الطبيعية والعفوية عندهم، وصار من التقوى ملازمة الإنسان لبيته، واعتزال الحياة في المقاهي والأسواق!!
مفهوم الاختلاط الخاطئ، قضى على المفهوم الصحيح للحياة، وهو العيش المشترك، فصار الاختلاط وحرمته بديلاً عن اشتراك الناس في معاش واحد، وحياة واحدة.
الاختلاط مفهوماً يوحي باختلاط عناصر غريبة عن بعضها، وحكم مريب تجاهها، لكن الحياة المشتركة هي ما يحدث بين الناس، وهذا ما نراه في جواب أم سلمة زوج رسول الله حين سمعت رسول الله: ينادي أيها الناس، خرجت مسرعة تلبي النداء، وحين سألتها جاريتها لكن رسول الله يقول: أيها الناس: قالت لها: وأنا من الناس.
__________________
ولم تمر إلا سنوات قليله، فثبت للناس أن ما بني على باطل فهو باطل، فسرعان ما انتشرت الأطباق الفضائية، وأخذ الشيوخ شيئا فشيئا يغضون الطرف عن تركيبها في البنايات، وفهموا أن البث الفضائي وان التلفزيون عبارة عن أداة ليست حرام في حد ذاتها إنما الحرمة تأتي من المواد التي تقدم عن طريقها، ولما كان هناك الكثير من الغث والسمين في الأثير، فيعتبر البث الفضائي والتلفزيون مثله مثل جهاز الفيديو الذي يمكنك عن طريقه أن تشاهد فيلما إباحيا فتصبح آثما، ونفس هذا الجهاز يمكنك استخدامه لتشاهد به محاضرة دينية أو شيخا يرتل القران، فيصبح ذلك الفعل حلالا وهذه أمور من البديهيات. وتفتحت مدارك الشيوخ أكثر وتنازلوا عن فتاواهم أو تناسوها لأنه لا يصح إلا الصحيح، ولأنه لا يمكن تكميم أفواه الناس بحجة سوء النية وقاعدة سد الذرائع التي تم مطها من فبل الشيوخ حتى كادت تنقطع، واستخدموها في غير ما لا ضرورة له، فضيقوا على الناس معيشتهم، وقيدوا حركتهم وتفكيرهم، وكمموا وجوه النساء وفرضوا عليهن لبس السواد، وحاولوا أن يلوون عنق الحقائق والشريعة، وقالوا لنا أن النقاب يعني الحجاب وان الحجاب لا يستقيم إلا إذا كان لونه اسود كلون الحقد والغربان، وحلفوا بأغلظ الإيمان أن أي لون آخر لملابس المرأة غير الأسود مثل الأبيض أو الرمادي يجعل من ترتديه آثمة.
ولكن ماذا يحدث الآن، ها نحن نرى ردة من قبل كثير من هؤلاء الشيوخ، إنها ردة للحق وللفطرة ولتصحيح كثير من الاعتقادات البالية والمرتبكة التي لا تسندها قاعدة صلبة، ولإشعار الناس أن الدين لا يؤخذ بالظنون والعادات والتقاليد والمزاج، وان الأصل أن كل شيء مباح في هذه الحياة ما لم يتم منعه بنص صريح، وكما تذكر الكاتبة المخضرمة بدرية البشر في مقالها أدناه اخذ بعض الشيوخ يراجعون مسلماتهم ويتنصلون مما قالوه في السابق، فتجد كثيرا من هؤلاء الشيوخ الذين كانوا يقفون سدا منيعا ضد البث الفضائي وضد مشاهدة التلفزيون على المطلق، تجدهم أول الناس الذين يهرولون الآن نحو القنوات وأدوات الفساد ليتعاقدوا معها بمئات الدولارات للظهور من خلالها، مزاحمين الممثلات ومقدمات البرامج المتبرجات، غير عابئين بما سبق وناضلوا من اجله لمحاولة كتم أي نفس يتنفسه الإنسان المسلم والمؤمن بالله حق الإيمان، فبالله عليكم إذا تحقق ما تمنوه وعشنا في عصور الظلمات ولم تنتشر التلفزيونات، من أين كانوا سيتقاضون هذه الدولارات؟ إلا تعتبر عملية عدم الثبات على الفتاوى والآراء الفقهية العاطفية إساءة لهؤلاء الشيوخ وإساءة للدين السمح العظيم الذي يمثلونه؟ وماذا يظن عنا أعداء الدين عندما يعرفون مثل هذه السلوكيات الارتدادية!! أليس من الواجب أن يتداعى علماء الأمة ورجالاتها المستنيرين ذوي الآراء المتزنة، أمثال الشيخان الجليلان القرضاوي وسلمان العودة لمؤتمر جامع تحت مظلة المؤتمر الإسلامي، يتم فيه صياغة دستور ملزم لجميع الدول الإسلامية يحدد أساسيات الدين والسلوكيات وما يجوز وما لا يجوز استنادا إلى القران والسنة بعد استبعاد كل الأحاديث التي تتصادم مع الواقع ومع المنطق والتي يدرك حتى غير المتفقه في الدين أنها لا يمكن أن تكون لها علاقة بالدين الإسلامي وأنها دخيلة عليه، ربما بحسن نية من الذي رواها كأضحوكة إرضاع الكبير، وتحميل الأحاديث التي تحذر من الخلوة فلا يفرقون بين الخلوة والاختلاط وإقحام النقاب ضمن الحجاب رغم انه لا توجد آيات ولا أحاديث صريحة تثبت ذلك وغير ذلك الكثير مما بات يحدث بلبلة واخذ الناس يعيدون التفكير فيه.
في اعتقادي أن مثل هذه الخطوة ضرورية حتى نرتاح كمسلمين من التخبط الذي نشهده حاليا في مزاد الفتاوى التي باتت تجعل حياة المسلم شديدة البلبلة، وحتى نحافظ على ديننا من أن لا يتم اختطافه من قبل مجموعة من الشيوخ العاطفيين المتشددين، اللذين رغم حسن نيتهم إلا إنهم يسيئون إليه بطريقة غير مباشرة. ويريدون أن يصوروا لنا أن الإنسان شيطان يمشي على قدمين وليس فيه جانب خير أبدا، وان الحياة ليس فيها غير (حرام/حلال)، وان الناس يجب أن تكون مثل الملائكة لا يزنون ولا يسرقون ولا يرتكبون الآثام، وقد فات عليه أو تناسوا عن عمد أن الله جعلنا كذلك لحكمة يعلمها هو، وانه لم يكن ليعجزه أن يخلقنا كالملائكة لا نرتكب آثاما أبدا ولا نعصى له أمرا. ولكن لان هذا لا يتفق مع قانون الحياة الدنيا والناموس الذي أراده الله، فجعل لكل شيء نقيض حتى يمحص الله الفاجر من التقي ويمتحن قدرته وقوة إيمانه لإتباع صراطه المستقيم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ثم عزز ذلك بوضع أنظمة شرعية صارمة، تضرب بيد من حديد على كل من يتعدى الأحكام الثابتة، فأمر بجلد الزاني وقطع يد السارق الخ... حتى يشهد عذاب من يذنبوا طائفة من المؤمنين ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه الإخلال بالأمن وارتكاب المعاصي المنصوص عليها وليعرف الناس قيمة أن تكون نظيفا، وان لا يؤخذ في تطبيق الشرع والقانون لومة لائم، فيتم تطبيقه على المفسد مهما كان، لأنه لا يوجد كبير على القانون والشرع، عملا بقول المصطفى لو سرقت فاطمة لقطع محمد يدها، وان لا يعاقب ابن الفقير ويتم التقاضي عن هفوات ابن الوزير، وبذلك يستتب الأمن. وان يستشعر ولاة الأمور عظم مسئولية أن يتقلدوا المناصب عندما تكون هذه الكراسي التي يجلسون عليها مؤقتة وطارده وغير محببة إذا كانت هناك وجوب توفر مسئولية واستعداد للمحاسبة إذا اخطأ أو سرق مال الرعية. وان يعلم انه يجب عليه أن يعطي الفرصة لإنسان آخر مؤهل ومسئول غيره بعد سنوات يتم تحديدها، حتى تنضخ دماء جديدة في الحياة، وحتى يشعر الناس أنهم يعيشون في مجتمعات مسلمة فعلا ترى أن الناس كأسنان المشط ومتساوون في الحقوق والواجبات.
هكذا يجب أن تكون الحياة... نعم ازني واسرق وافعل ما يحلو لك (إذا كنت رجل أو مجنون)، ولكن تذكر قبل أن تفعلها انك إذا وقعت في يد العدالة - ولا بد أن تقع - لان المجتمع الذي يخلو من الفساد يستحيل أن يتوارى فيه المجرم عن الأنظار، فانك أن فعلت ستواجه العقاب الرادع الذي يكنس عفنك ويرميه في مزبلة التاريخ وتكون عبرة للآخرين، وهكذا يسود الوئام والسلام بين الناس وتتضخم الروح المعنوية فيبدع كل في مجاله. وتستطيع المرأة المشي في الطرقات حاسرة الوجه واليدين دون أن يتعرض لها ابن وزير لديه ظهر يحول بينه وبين العقاب، فيحاول اغتصابها أو التحرش بها أو ترقيمها غصبا عنها دون أن يهتز له جفن لأنه يعلم أن رجال الشرطة لن يجرؤوا بالاقتراب منه، بل يمكن لهذه المرأة إذا كانت لا تخاف الله أن تسير عارية في الطرقات وهي مطمئنة أن لا احد سيجرؤ على مس شعرة في جسمها، وان الرجال سيضطرون للتحكم في شهواتهم غصبا عنهم، فرغم انه قد يحدث لقضبانهم انتصاب (وهذا طبيعي) إلا أن احد منهم لن يجرؤ على الهجوم عليها كما حاولت قطعان من الرعاع المستذئبة في القاهرة قبل فترة الهجوم على فتيات بريئات في قارعة الطريق بهمجية لا تحدث إلا في القرون ما قبل ظهور البشر. ويخاف كل مسئول من التورط في الفساد فيؤدي الأمانة لأنه يعلم انه سيحاسب، فيوزع الثروة التي ائتمنه الله عليها بالقسط والعدل على الناس، فيأخذ كل ذي حق حقه عندما تترجم إلى مشاريع وبنية تحتية وخدمات ورفاهية، وبالتالي لن يكون هناك سبب يدفع كثير من الشباب ليضطروا للسرقة أو أن يضطر موظف مؤتمن على أموال الناس باختلاس المال العام، أو يضطر مهندس يوكل إليه تنفيذ مشروع يجب أن يكون على أحدث المواصفات والمتانة حتى يصمد في وجه الظواهر الطبيعية كما كانت تصمد بنية جدة التحتية.
هكذا يجب أن تكون الحياة مبنية على التوازن وعلى النظام والضبط والربط، وان لا تكون كل الأمور سائبة (وماشية بالبركة) رغم إننا الذين اخترعنا أسس نظريات الرياضيات والهندسة، فيعيش الناس في سعادة وامن وأمان واطمئنان، وتزدهر المجتمعات وتتطور، وتصبح من القوة والعلم والمعرفة والمثالية فنكون قدوة للأمم الأخرى، فيصبح الإسلام أكثر جذبا، ومقنعا أكثر لهم بشكل عملي من دون أن نضطر لبذل جهود كبيرة ومغالطات في إقناعهم لأنهم سيرون أناس ناجحين أمامهم على جميع الأصعدة، ولن يرى مجرد أمم متخلفة تعتمد عليهم في كل شيء، لا يتم ذلك إلا عندما نصبح أقوياء من جميع النواحي بفضل العدل وقطع دابر الفساد بدءا من أعلى رأس في هرم السلطة في جميع دولنا العربية، وبذلك نستطيع أن نعد لكل عدو تسول له نفسه النيل من دولنا، رباط الخيل فنرهبهم به فيتورعون عن اللعب بالنار معنا... ولن تقوم لنا قائمة إلا إذا اهتدينا إلى تطبيق مثل هذه الحلول، وسنصبح في ذيل الأمم إلى الأبد إلى يوم الدين مستضعفين في الأرض، لان السماء لا تمطر ذهبا، وستظل دويلة سرطانية تافهة مثل إسرائيل ترهبنا رغم إننا كعرب ومسلمين نفوقهم عددا، ولكننا للأسف لا نفوقهم عتادا وعدة وتتطورا لأننا أمم متخلفة كثيرة كذا مليار نسمة ولكنها كغثاء السيل...
تبا لنا جميعا... ولا استثني منا أحدا من الماء إلى الماء.
والسلام ختام.
وأترككم مع مقال الكاتبة المخضرمة بدرية البشر الذي أوحى لي بكتابة الإدراج أعلاه:
انتهى كلام جاكس
القرار السياسي!
جريدة الحياة - الإثنين, 14 ديسيمبر 2009
بدرية البشر
لو سألت رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة، الشيخ الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي وغيره من المشايخ الذين أدلوا بآراء، تُظهر وجه الإسلام المتسامح اليسير، عن السر الذي جعل آراءهم هذه تبقى طي الكتمان حتى أمس، لقالوا لك إن الوقت لم يكن يسمح بها، وإن الإنسان لا يغامر بمعاشه وأمنه، ولا يسبح عكس التيار!
فما الذي تغيّر، وجعل معظم المفاهيم التي كان لمسها والاقتراب منها من المحرمات، لتصبح اليوم محل نقاش، قابلة للجدل والأخذ والرد، بل ويدعمها مشايخ لهم عند الناس حظوة كبيرة؟
ما الذي جعل اليوم مصطلحاً مثل الاختلاط مفهوماً دخيلاً على الإسلام وافتراءات على الدين، بعد أن كان مفهوماً وتطبيقاً محرماً، يعرّض مخالفيه للحساب؟
إن السنوات العشر الأخيرة شهدت ما يمكن وصفه بأنه انقلاب اجتماعي، فأصبحت معظم المواضيع التي اعتبرت من المحرمات والمقدسات محل نقاش، وجدل، يسمح بالرأي والرأي الآخر، وأهم هذه المصطلحات، الاختلاف على مفهوم الحجاب، وحوار الأديان، وقبول الآخر، ومحاربة الفساد والاعتراف بوجود الفقر، والشفافية والرقابة على المال العام الخ من المصطلحات التي لم يعهدها المواطن السعودي.
هذا الانقلاب ما كان ليتم لولا وجود القرار السياسي والإرادة السياسية الشجاعة، الطامحة للإصلاح.
هذا الإنجاز الكبير للقرار السياسي، وحثه على المراجعات، هو ما سمح لهؤلاء المشايخ الأفاضل بأن يتقدموا باتجاه إعلان معارفهم وقراءتهم التي تُظهر وجهاً متسامحاً في الدين ورحابة في المعاش، فأصبحت المرحلة تسمح بذلك من دون أن تعرّضهم لدفع الثمن غالياً.
ولّت تلك المرحلة التي تركت قاعدة كبيرة من الناس تغرق في مجاهل التشدد والاختناق، وزرعت الريبة في نفوسهم، وابتعدت عن حسن الظن، حتى بتنا نسمع نساء يتصلن بالمشايخ، ويسألن هل يجوز كشف شعري لعمي وخالي؟
حين كان إرهاب الناس وزرع الريبة والإثم في نفوسهم عادة عند بعض المشايخ، مما أسهم في القضاء على مظاهر الحياة العامة، الطبيعية والعفوية عندهم، وصار من التقوى ملازمة الإنسان لبيته، واعتزال الحياة في المقاهي والأسواق!!
مفهوم الاختلاط الخاطئ، قضى على المفهوم الصحيح للحياة، وهو العيش المشترك، فصار الاختلاط وحرمته بديلاً عن اشتراك الناس في معاش واحد، وحياة واحدة.
الاختلاط مفهوماً يوحي باختلاط عناصر غريبة عن بعضها، وحكم مريب تجاهها، لكن الحياة المشتركة هي ما يحدث بين الناس، وهذا ما نراه في جواب أم سلمة زوج رسول الله حين سمعت رسول الله: ينادي أيها الناس، خرجت مسرعة تلبي النداء، وحين سألتها جاريتها لكن رسول الله يقول: أيها الناس: قالت لها: وأنا من الناس.
هذا الانقلاب ما كان ليتم لولا وجود القرار السياسي والإرادة السياسية الشجاعة، الطامحة للإصلاح.
هذا الإنجاز الكبير للقرار السياسي، وحثه على المراجعات، هو ما سمح لهؤلاء المشايخ الأفاضل بأن يتقدموا باتجاه إعلان معارفهم وقراءتهم التي تُظهر وجهاً متسامحاً في الدين ورحابة في المعاش، فأصبحت المرحلة تسمح بذلك من دون أن تعرّضهم لدفع الثمن غالياً.
ولّت تلك المرحلة التي تركت قاعدة كبيرة من الناس تغرق في مجاهل التشدد والاختناق، وزرعت الريبة في نفوسهم، وابتعدت عن حسن الظن، حتى بتنا نسمع نساء يتصلن بالمشايخ، ويسألن هل يجوز كشف شعري لعمي وخالي؟
حين كان إرهاب الناس وزرع الريبة والإثم في نفوسهم عادة عند بعض المشايخ، مما أسهم في القضاء على مظاهر الحياة العامة، الطبيعية والعفوية عندهم، وصار من التقوى ملازمة الإنسان لبيته، واعتزال الحياة في المقاهي والأسواق!!
مفهوم الاختلاط الخاطئ، قضى على المفهوم الصحيح للحياة، وهو العيش المشترك، فصار الاختلاط وحرمته بديلاً عن اشتراك الناس في معاش واحد، وحياة واحدة.
الاختلاط مفهوماً يوحي باختلاط عناصر غريبة عن بعضها، وحكم مريب تجاهها، لكن الحياة المشتركة هي ما يحدث بين الناس، وهذا ما نراه في جواب أم سلمة زوج رسول الله حين سمعت رسول الله: ينادي أيها الناس، خرجت مسرعة تلبي النداء، وحين سألتها جاريتها لكن رسول الله يقول: أيها الناس: قالت لها: وأنا من الناس.
__________________
0 التعليقات:
إرسال تعليق