الاثنين، أغسطس 03، 2009

قرأت مؤخرا...

غزوة الجـــــــــــــــــــــن ..

جلال القصاب
في فيلم ملك الخواتم يعشق البطلُ جنّية جميلة تُحارب وقومها إلى جانبه، وأفلامٌ عديدة تعمّق فكرة الإيمان بالجنّ وقدراتهم وتدخّلاتهم في مفاصل حياتنا، وطردنا أرواحهم الشرّيرة، وتحرير بيوتنا المسكونة من ‘’غزوها’’ و’’احتلالها’’ (كتعويض عن تحرير أنفسنا وعقولنا)، بل عُرضَ مرّةً (مسلسل) بحرينيّ رمضانيّ يحكي مغامرات مع قبائل الجنّ وجزائر الواقواق والعفاريت الزُرق!.
أمّا في (مسلسل) الحياة، فأطفالنا يُبرمَجون منذ الصغر على الجنّ بتوصيف شقيّهم (جنّي وشيطان)، وبضخّ عقولهم بكارتونات (سندباد) وغيره ومغامراته مع (العفاريت)، و(جنّي) الخاتم، و(جنّي) الفانوس، إلى تخويفهم باستدعاء (الجنّي) ليستلمهم مع أدنى عناد.
يتعزّز هذا بحكايات أمّهاتنا وجدّاتنا لتجاربهنّ مع (الجنّ)، والغنمة السوداء، والكلب، والسنّور الأسود (الجنّي)، و(أم حمار)، و(أبو دعيدع)، و(العبد المسلسل) الذي يخطف الأطفال الأشقياء، فترتعد منها أبداننا كأفلام الرعب، ويزيد (الطحين) إغراقاً امتلاءُ تراثنا الجــاهليّ والأسطـــوريّ والشعريّ بوديان (الجنّ) والتعـــوّذ (بالجنّ) وبأشعـــار (الجنّ) وقصص مَن تزوّج بهــنّ!.
ويتعاظم الطوفان، بتواتره في ملَلٍ تُحضّر (الجنّ)، وتطرد (الجنّ)، بالصليب وبالماء المقدّس وبذبائح الحيوان وبالأذكار والتراتيل الخاصّة ويعزون ذلك لله تعالى ولمقتضيات الإيمان! يُعزّزه وجود آيات (قرآنيّة) عن (جنّ) سليمان، وسورة (الجنّ)، وشياطين (الجنّ)، وتفسيرها بتعسف مزرٍ كسواها حين تناولها أصحابُ الأوهام والعقائد المسبقة.
ويشتدّ البلاء، باندساس مرويّات (إسرائيليّات) عن آدم مصنـــوعاً من فخّار يدخلــــه (إبليس) ويخرج منه، ثمّ أحاديث نبويّة مزعومــــة عن (تقييد شيطان) و(مقاتلة عفريت) و(إسلام جنّي) ربّما صحَّ بعضُها لكنّ الأواخر - بخلاف الأوائل- جعلوا معناها مـــوافقاً لمخيالهم القديم ومحكيّاتهم الشعبيّة الخـرافيّة.
أضف إلى ذلك، إطلالُ مشايخ يثق الناسُ بمستواهم ويستأمنونهم على أديانها، يُمارسون ذاتَ الوهم، فهم تارةً يفكّون (السحر) ويصنعون الرُّقي ويطردون (الجنّ) بالبخور وبآيات القرآن!. ويُتحفوننا بالفضائيّات والصحف والكتيّبات الخاصّة يقصّون ‘’حقيقة!’’ (الجنّ) التي تتلبّسنا ولا نأمن شرّها (إلاّ بأمثالهم). فبعضُهم أجرى مقابلات صحفيّة مع (جنّيّ)، وبعضٌ له رحلاتٌ بعالم (الجنّ) كابن بطوطة، يصف أنواعهم وأشكالهم ومأكلهم ومنكحهم، وبعض تزوّج (جنّيات) مثنى وثلاث!. وبعضهم يحكي أنّه (أسلمتْ) قبائل (جنّ) بوذيّة ومجوسيّة ويهوديّة على يديه!.
ويميعُ (الطحينُ) كلّه، برؤية هذه العقيدة تعتمل بنفوسنا، حين ندخل مقبرةً موحشة ليلاً، أو ننزل لقبوٍ مظلم، أو بعد جلسة ليليةٍ حفلتْ بقصص (واقعيّة! ومُوَثّقة!) عن (الجنّ)، ثمّ نخرج في الظلام فيشتغل وهمُ (الجنّ) بهرموناتِ الخوف الغرائزيّ مع سماعنا خشخشاتٍ وأصواتٍ غريبة كصوت القطط (المسكونة(
كلّها خرافاتٌ، ومقالبُ ظُرَفاء، وخيالاتٌ، ونسجُ قرائح وإبداعاتُها، حين لم تكن تُوجَد أفلام سينمائيّة للخيال وللرّعب، تُسكَب فيها أفكارُ الخيال، فتُنظَم محكيّاتٍ وشعراً، في عصورٍ يعزّ التحقّقُ فيها من مادّتها التاريخية، نسجها أناسٌ لتهذيب أبنائهم وللمواعظ وللتسلية وللإبداع وجرّاء الوهم أيضاً، فانتشرتْ وصارتْ عقائد راسخة، ثمّ جاءت أنوارُ الدين وتعاليمُه لتطهّر الناس منها وتُعيد استواءهم العقليّ وتكبح خيالَهم المضر، لكنّها الأخرى أسيء تفسيرُها لاحقاً، مِن قبَل رجال دينٍ أشرار وأخيار، وبقي الخيالُ الفاسدُ والتراثُ المتراكم وشهاداتُ الزور تعصفُ بعقول حتّى مفسّرينا العقلاء، ساعد ذلك وجودُ نصوصٍ استعصى فكُّها، وحصولُ ظواهر خفيّة العِلل، ولو ردّوها إلى علماء الطبيعة، والنفس، وطبّ الأعصاب، والإلهيّات، والكيمياء، والميكانيكا، وأناطوها بمحقّقين خاصّين، لاتّضحتْ وسقطت عن الاعتبار، ولعالجوا بالعلم والرحمة مساكينَ المرضى الذي يُجلَدون ويُبتزّون ويُتعتَع بهم لإخراج (الجنّي) منهم! أو لعلاج عقمهم ومشاكلهم، بينما مشعوذُهم أولى بالعلاج العقليّ أو القانونيّ، ولعاد لعقلنا انبعاثه بعد هذا (الاحتباس) المزريّ.
اختصاراً نقرّر الآتي:
1-
عزْوُ الظواهر غير المفهومة (للجنّ) جهلٌ وتجهيلٌ، يمنع دراستها لكشف أسبابها.
2-
الأمَمُ تغزونا بعلومها، ونحن نمكّنهم بغزو عقولنا (بالجنّ) ونظائرها من فيروسات تستضعف عقولنا وإيماننا.
3-
كلّ ادّعاءات طرد (أرواح) وإخراج (جنّ) من (إنس)، هي أفلامٌ لتكسّبٍ غير مشروع، و(قطع السبيل) للمرضى عن تداويهم الحقّ، وإزراءٌ بالدّين واغتصابٌ لنصوصه وتشويهٌ لهداه.
4-
كلّ الممارسات مهما تلبّست بصليبٍ وبماءٍ مقدّس وتلاوة آياتٍ وأحراز، لتحرير فردٍ من مسّ وتلبّس (الجنّ)، فهي جهلٌ مع حسن نيّة، أو شعوذةٌ ودجلٌ للطش جيوبِ الناس واستغفالِ قلوبهم واستضعافِ عقولهم وخدشِ إيمانهم بالله وبأسبابه ونواميسه.
5-
ما لم نتحـــــرّر من هـــــذه الخـــرافـــــات فلــن نتقــدّم، وستطــــول كـــوابيسُنا، وستبقى الرجالُ تطأنـــا والعقائدُ الهشّة تنخـــرنا.
6-
القرآنُ ونبيُّه (ص) أعلنا الحقيقة، (أنّ الجنّ لا يُرَوْن ولا تماسّ لنا بعالَمهم)، لــــكن مَن يقرؤه بعينٍ لا سقَــم فيهـــا ولا مآرب؟
7-
كان مبعثُ النبيّ(ص) ميـــلاداً للعقل، لم يرَ (جنّياً) وهو في (الغار) سنين، بل رأى ملائكة، لذا حـــارب هذه الجهالات، وحُورب بها، فقالوا (ساحر) (به جِنّة) (تنزّلت به الشياطين)، فطهّرَ الناس من (عبادة الجنّ) وتعني الخـــوف منهم والإيمان بتماسّهم وتأثيرهم فينا، التي سردْنا بعض مظاهرها أعلاه، وحرّرهم إلى عبادة الواحـــد الأحــد، وأرجع الأمـــور لأسبابها العلميـــّة الحقيقيـــة، للتـــوكّل على مسبّبها، ونادى (أنّ من أتى عرّافا، أو كاهنًا، أو ساحراً) وأشباهها: طارد أرواح، ‘’دكتور’’ جنّ، بَصّار بلّورة، منجّم أقدار، قارئ طوالع، (فقد كفر بما أُنزل على محمّد)، فلننْظرْ: هل عقولنا محمّديّة أم جاهليّة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوتنا أخواتنا أدم الله عزَّهم ونفعهم بما علَّمهم
نهدي لكم سلامنا وتحياتنا وبعد:
الأمل أن تولوا الموضوعات التي نرسلها لكم ـ وهذا هو المعروف عنكم ـ عناية خاصة ليرقى القلم وتحسن معالجة الأفكار بأساليب شيقة ومتينة. وفي موضوع أخينا الحبيب أبي إبراهيم " غزوة الجن" دروس نافعة في فن الكتابة إذا أحسنا الانتباه إليها والانتفاع بها تحققت فوائد عظمى؛ لذا نتمنى من مهج عيوننا الوقوف عند النقاط الآتية بعناية آملين أن تكون هذه الملاحظات حاضرة في الذهن مع كل موضوع نرسله إليكم، شاكرين لكم الاهتمام والسعي:
ملاحظات:
1
ـ اختار الكاتب لموضوعه عنوانًا مشوقًا "غزوة الجن".
2
ـ مارس الكاتب أسلوب الهدم والبناء، هدم عقيدة باطلة ترسخت في عقول الناس ثمَّ شرع في بناء ثقافة جديدة في الجنّ قرآنيًا وعقليًا.
3
ـ استشهد على ما يقول بأمثلة كثيرة متنوعة مسلمة عند النّاس ليقنع قارئه بأنَّ ما يقوله واقع وليس من نسج الخيال، ثمَّ ليثيره ليطلب التفسير الذي صيّر الباطل حقيقة مسلمة عند معظم النّاس؛ ليشرع فيما بعد بأسلوب جميل رائع بهدم هذه الأفكار.
4
ـ استعان الكاتب بأسلوب السخريّة ليضعف ويوهن من شأن هذه الأفكار التي رسخت في ذهن النّاس؛ ليقنعه بفسادها؛ ثمَّ ليجرئه على التخلص منها.
5
ـ استطاع الكاتب أن ينتقل من فكرة إلى فكرة في تسلسل منتظم، يرفع عند كل درجة من وعي القارئ شيئًا فشيئًا ليوصله إلى ما يريد..
6
ـ بيَّن أسباب رسوخ هذه العقيدة في أذهان النّاس؛ لأنَّ النّاس إذا عرفت السبب بطل العجب.
7
ـ جمع الكاتب رأيه في الأخير فوجه ضربة قاضية على هذه الأفكار التي لا تستند إلى شرع ولا عقل ولا منطق.
8
ـ بين مخاطر الفهم الخاطئ للدين ونصوصه في تغذية هذه العقائد والأفكار.
9
ـ بين دور الدين الحقيقي في محاربة هذه الأفكار، وأشفع ذلك بالأدلة والبراهين.
10
ـ لم يكتفِ بوصف العلة وتشخيص المرض وإنّما طرح الدواء الشافي والعلاج الناجع.
11
ـ بين أضرار الإيمان بهذه العقيدة الفاسدة، الدينية والدنيوية.
12
ـ لخص الأفكار في الختام وجعلها في نقاط مستقلة لينتبه القارئ لكل نقطة على حدة؛ ليودع قارئه في الختام وقد اطمأن أن أفكاره قد وصلت، .
14
ـ استشهد بالحديث الشريف وأتى بمصاديق لمعاني الحديث ليعزز فكرته. (أنَّ من أتى عرّافا، أو كاهنًا، أو ساحراً) وأشباهها: طارد أرواح، ‘’دكتور’’ جنّ، بَصّار بلّورة، منجّم أقدار، قارئ طوالع، (فقد كفر بما أُنزل على محمّد).
15
ـ بدا الكاتب شجاعًا واثقًا تمام الثقة مما يقول ـ وهو هكذا كما عرفناه ـ لأنَّ النّاس لا تأخذ من المتردد أقواله.
16
ـ سلامة اللغة، مع توفر عناصر الموضوع من مقدمة وعرض وخاتمة.
-----------------------------------
هذا الموضوع لتعزيز الملاحظات السابقة
عُبّـــــــــــاد الـجــــــــــــــن
جلال القصاب
في دراستي الجامعية بالغرب، عملتُ مقلباً صدمتني نتيجتُه، فقد زرت إحدى شقق زملائي الطلبة ليلاً، وتأخرنا نروي قصص ‘’الجنّ!’’، ثم نمنا، فقمت خلسة واستجلبت قطة أليفة أرقدتُها مكاني، ولففتُ عليها وشاحي، ووضعتُ بجنبها حقيبتي ومحفظتي وخرجتُ مُخلّفاً حذائي، صبيحةَ اليوم التاليّ، كانت الدلائل تشير أنّي تحوّلتُ إلى قطّةً، فضجّ زملائي وبكَى بعضُهم، وحاول عبَثاً محادثتها لإرجاعي، ووجد في مِوائها والتصاقها استجداءً حزيناً منّي!
هذه عقيدتنا، وقلتُ الحلقةَ السابقةَ أنّ عقيدتنا في ‘’الجنّ’’ نحن صنعناها، و’’الجنُّ’’ بريئون منها، بخلاف عقيدتنا بالله فهي صناعة السماء، فالله ‘’فعّال’’ في حياتنا، أمّا الجنّ فعالَمٌ آخر، لا ضُرَّ ولا نفعَ ولا تماسَّ لهم بنا.
نحن مَنْ يُدخل في عقل الطفل خوفَه من الجنّ والكلاب وسواها، بتهديده: ‘’كن مطيعاً وإلاّ جئنا بالكلبِ يعضّك’’، أو ‘’سيأخذك الجنّي ليلاً’’، ونحن المُخوّفون أنفسنا بحكايات ‘’جنّ’’ الظلام، والمقابر، والبيوت المسكونة، وضربات العين، لو فعّلنا أمثالَ قول النبي (ص) ‘’أحثوا في وجوه المدّاحين التراب’’، فنكذّب المتلاعبين بعقولنا تدليساً أو ترويعاً، وندّخرها حكاياتٍ للتسليّة والمواعظ كمسلسلات الكارتون والترفيه، فلا نستعين بمدّعين فيها ومشعوذين، مهما تديّنوا، لما راجتْ ولانقبرتْ.
ولو إذْ خفْنا تحقّقنا لزال خوفُنا بما ضَخّم من عقائد ‘’فإذا هبتَ أمراً فقعْ فيه’’، فكم مقابر خوّفونا بأشباحها فغزوناها ليلاً فبطل سحرُها، وبيوتٍ ادّعوا أنّها مسكونةٌ ‘’بالجنّ’’ ثمّ بتحقيقٍ جَسورٍ اتّضح أنّها خشخشات أنفاق الأرانب، أو جرذان تقرض خلف الجدران، ووديانٍ ادّعوا أنّها ‘’للجنّ’’، ثمّ باقتحامها رأوها ظواهر طبيعيّة؛ بركانية، مائيّة، أو مجرّد صفير هواء بتجاويفها، لكنّ الأفلام والخيال والقصص والخوف تصنع عقائدنا المسكونة ‘’بالجنّ’’، ثمّ نمسحها بالقرآن أنّه ذكرَها وذكرَ ‘’إبليس’’! خصوصاً أنّ الطوائف دسّت قرائحُها مرويّاتٍ لمعارك وجولات مصارَعةٍ لعليّ ولعمر مع ‘’الجنّ’’!
ينبغي ترويض عقول أبنائنا على الحوافز الحقيقية لتربيتهم، فلا نملأها بالترويعات والخرافة، فلْنخوّفهم بعقوبة الله مثلاً وبعدم مرغوبيّتهم، ولا نُعقّدهم بالبواطل كعضّ الكلاب واستحواذ ‘’الجنّ’’، ولا نمنّيهم ‘’بجنّية’’ تأخذ ضرسَهم المخلوع، وبأخرى تحقّق أحلامهم بعصاها السحريّة.
في عصور الظلام بأوروبا، حيث ‘’الخوف’’ و’’الجهل’’ أبَوَا العقائد، وحيث ‘’الاستبداد’’ يتلبّس بالدين، كانت الشاذّات تُطارَد بوصفهنّ ‘’ساحرات’’ و’’جنّيات’’ و’’أرواحاً شرّيرة’’ و’’مصّاصات دماء’’، فاستوردنا ظلامهم بدل تنوَرَّهم، واندسّت عقائدُ الجاهلية والظلام لتتلفّع بديننا وتعْلقَ بنصوصنا القرآنية والنبويّة تعلّق الدبّاء بالشجر اليانع.
إنّ عقيدة مسّ ‘’الجنّ’’ والتماسّ بهم لا تنشأ إلاّ في بيئات الجهل، حيث يُستخفّ بالعقل، وحيث لا صدقيّة للعلم، بل للعاطفة والاهتياج والمسوح والطقوس، وحيث التقليد والسماع هما الوسيلة، بدل الاختبار والبرهان، بل بيئةٌ لم تعرف من حقائق الدين إلاّ قشوره، ولا من جهاد النفس إلاّ التخدير والتنطُّع، فشياطين الإمبريالية والصهيونيّة تدخلنا وتشخلنا وتنخلنا، ويُخوفوننا من ‘’الجنّ’’ تدخلنا!
البعضُ يقول أنا ‘’أستخدم’’ ‘’القرآن’’ لطرد ‘’الجنّ’’! أيُّ جنّ؟! إنّما هو ‘’يستغلّ’’ ‘’القرآن’’ لطرد ‘’العقل’’، فأعقلُ الناس (ص) وقرآنُه حاربا بضراوة أمثال هذه الدعوات الزاعمة تلبّس الجنّ ‘’بالنبيّ’’ وبغيره، وهو (ص) لم يعلَمْ ‘’بالجنّ’’ لولا إعلامُ الوحي أنّ ‘’جنّاً’’ استمعوا له، فأُمِر لِيقول إنّ الوحي أخبره، لا أنّه رآهم وسمِعهم ‘’قلْ أُوحي إليّ أنّه استمع نفرٌ من الجنّ’’!
وما دامت العقلية التي ذمّها القرآن بقوله ‘’بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون’’ تحكمُنا، فسيسوغ أن نفهم معكوساً الآياتِ والأحاديث التي تتكلّم عن ‘’الجنّ’’ و’’الشياطين’’ والتي أتتْ لِكنْس العقيدة البالية، وتُركّز مفهوماً ‘’للشياطين’’ منطقيًّا أجنبيَّ العلاقة ‘’بإبليس والجنّط، ترتبط دلالاتُه بفساد البشر وشرورهم حيث ‘’شيطان كلّ امرئ نفسُه’’، فمفردة ‘’شيطان’’ في اللسان العربيّ والاستعمال - مثل غيرها - لها مصاديق وتعيّنات كثيرة، فلا تعني ‘’الجنّ وإبليس’’ فقط، بل ‘’الحيّات’’ شياطين كقوله تعالى ‘’طلعُها كأنّه رؤوس الشياطين’’، و’’الجراثيم’’، و’’الوباء’’، و’’النظام الفاسد’’، و’’الشخص الشرّير والمُضلّ’’، و’’عُقَد النفس’’، و’’الصَّرع’’ وغيرُها، كلّها ‘’شياطين’’، هي هكذا في القرآن والمرويّات ولدى العرب، لو فحصها عاقلٌ نزيه.
جاهد نبيُّنا (ص) لينسف الأباطيل، التي تغزو الأدمغة حين تجهل أسرار الطبيعة، وكانت الجاهليةُ تعزو الظواهر الغريبة والمخاوف ‘’للجنّ’’ والأرباب والنجوم، فعزاها (ص) لله وآياته، وأمر قرآنُه بالتفكّر لتعقّل هذه الآيات وفهم أسبابها وأسرارها؛ من خسوفٍ، وجدبٍ، وأسقام، وأمراض نفسيّة، وعقم، وفساد، وجراثيم، وزلازل وتغيّرات جيولوجية، وحركة صخور، وشرور المجرمين المتستّرين بالليل، ونزاع أخوة، وكلّها تُتّهم الجنّ ‘’الأبرياء’’ بها بالأمس وباليوم، والنبي وأصحابُه حسموها لمّا كان القلبُ مفعماً بالإيمان والعقلُ فعّالاً لما يريد.
حتّى المسيح (ع) عالج الزمني والمرضى، بنصّ القرآن، ولم يُؤثِر عنه تُرّهات إخراج ‘’جنّ’’، بل كانت صناعة الكُهّان والمتاجرين بعقول الناس يُضلِّلونهم. فقد لحقت امرأةٌ كنعانية المسيحَ ترجوه إخراج ‘’شيطانٍ’’ من ابنتها (والمقصود مرض الصرع)، فلم يُجبها، وقال لتلاميذه ‘’لم أُرسَل إلاّ إلى الخراف الضالّة من بني إسرائيل’’ (متّى1525)، ويعني المتلبّسين بالدّين، لكنّه شفاها مع ذلك من دون أبخرةٍ وخيزران وتراتيل، المسيحُ اتّجه لمعالجة مكمن الداء وأصل العقائد الفاسدة، حيث ‘’شياطين’’ الثقافـة الدينيّة والمعرفيّة، استعبـدونا وتغلغلـوا بعقولنا وأبداننا وجيوبنا، دخلوا فينا مكرَّمين، ولا طاردَ لهم اليـوم.

من الذي يتلبسنا: الجن أم الخرافة ..

أ.كريمة عبد الكريم
أتساءل لماذا صار علينا أن نصدق ما ينسب إلينا من أمور مكذوبة ونسلّم بها وكأنّها جزء من واقعنا وعقيدتنا، نفعل ذلك رغم الآثار الخطيرة التي يخلّفها التصديق بمثل هذه الأمور والتي تصل إلى حدّ تصدّع كياننا واهتراءه. من هذه الأمور تأتي مسألة الجن في قائمتها، الجن ذلك العالم المجهول الذي مازال الكثير يتخبط في فهمه ومعرفته وتحديد العلاقة معه، وبسببه يتّهم الدين (باعتباره طرح موضوع الجن وأعلمنا نحن الإنس بهم) بالتخلّف و الرجعية وذلك لشيوع الإيمان بأوهام الجن والاعتقاد بما ليس فيهم والتي تنتشر بين أوساط المتدينين بشكل خاص وتهيمن على عقولهم. أننا نعيش زمن التحضّر وعصر إنجازات علمية باهرة تمكنت من استنساخ كائنات حيّة، ورعت مغامرات سبرت أغوار الكواكب الخارجية وكشفت أسرار النجوم والمجرّات.
إن عالم الجن يختلف اختلافا كليا عن عالم الإنس، إذ يختلف في المادة التي خلق منها، كما أنه يختلف في الصفات التي يتميز بها، وقد أدى هذا الاختلاف في المادة والصفات إلى اختلافات كبيرة في القدرات وإلى خصوصيات يختص بها كلّ عالم عن الآخر، ومع ذلك فإنّ عالمهم يشترك مع عالم الإنس في التكليف والأمر بالعبادة والوعد بالحساب، وما يترتب على ذلك من وجود العقل والإدراك والقدرة على التفكير والعمل وعلـى التمييز بين طريقي الخير والشر، قال تعالى: ( لَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) (الصافات: 158)، أي أن الجنّ على علم بحقيقة وغاية وجودها وأنها مكلّفة وستحاسب تماما مثل الإنس، وقد بيّنت الآيات أيضا أنّهم مأمورون بالإيمان والعبادة، قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون) (الذاريات:56)، ونزلت سورة كاملة باسمهم ذكرت عنهم تفاصيل كثيرة منها أنهم أصناف فمنهم المسلم ومنهم الكافر، وأنّ من أسلم لله فقد أدرك سبيل الرشد والنجاة ومن أعرض وكفر فإن مصيره إلى جهنم، تحقيقا لقوله تعالى: ( لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )(يوسف: 13).
الجنّ حسب القرآن الكريم مخلوقات موجودة معنا على هذه الأرض إلا أنّها تعيش في أبعاد مختلفة عن عالمنا ما يجعل من المحال على الناس العاديين أن يشاهدوهم أو يلتقوا بهم أو يسمعوا أحاديثهم، وفي ذلك يخبرنا القرآن الكريم: ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ )(الأعراف: 27)، فلا بد من إمكانيات من نوع خاص تمكّننا من الدخول على عالمهم، تلك الإمكانيات أعطيت لبعض الأنبياء فقط كما أخبرنا القرآن الكريم، فقد سخّرت الجنّ لنبي الله سليمان(ع)، وقد أوحي إلى نبيّنا محمد(ص) أنّه قد استمع نفر منهم له وهو يتلو القرآن ولقد أعربوا عن إعجابهم بما سمعوه وسارعوا للإيمان به، وحسب بعض الروايات أنّهم عرضوا على النبي(ص) خدماتهم كما كانوا يفعلون مع نبي الله سليمان(ص) إلا أنّ النبي رفض ذلك اعتمادا على الله سبحانه وتعالى وعلى القدرة والقوة التي يملكها وعلى طاقات المؤمنين الذين أيدوه.
إنّ علاقة الجنّ بالإنسان علاقة قديمة بدأت منذ خلق آدم الإنسان الأول، وقد برزت هذه العلاقة حين أقسم إبليس وهو من الجنّ أن يكرّس جهده ليتربّص ببني آدم بعد أن اعتقد أنّ آدم قد فُضّل عليه باختياره خليفة لله في أرضه مع أنه كان يظنّ نفسه أنّه أولى منه، فانبرى مستخدما ما يستطيعه من وسائل وإمكانيات بغية إغواء بني آدم وتنحيتهم عن نيل الخيرات و تحقيق القرب والسعادة. فالجنّ في الأصل كائنات لا تعادي الإنس وليست معنية بهم، إلا إبليس وجنوده من شياطين الجن بل وجنوده من شياطين الإنس، وقد شرح القرآن الكريم هذه العلاقة وأوضح بصورة مفصّلة عداوته لآدم وبنيه، وبيّن أنّ هذه العلاقة على قدمها وامتدادها عبر التاريخ الطويل للإنسانية إلا أنّها لا تتعدّى الوساوس والخداع والاحتيال والتغرير، فإبليس لا يملك الهيمنة القاهرة والسيطرة المطلقة على الإنسان لذلك فإنّ ضحاياه هم ممن ضعف الإيمان في قلوبهم والمنطق في عقولهم والأخلاق في نفوسهم، حتى أنّ إبليس نفسه يقرّ أنّه لا يملك سلطانا على أحد، وإنّ أقصى ما يمكنه عمله هو استخدام أساليب الحيلة والدعوة للتحفيز على القيام بالأعمال الدنية الشريرة التي تبعد الناس عن استجلاب الخير والرقي والتسامي الروحي..( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ )( إبراهيم: 22).
ورغم كل ذلك، إلا أنّ الإنسان ما برح يخشى من هذا العالم المجهول، وعبر تاريخه الطويل نسج أشكالا من القصص والروايات التي تنسب إلى الجن، الجنّ هم المتهمون الأوائل في أغلب الظواهر التي يعجز عن تفسيرها تفسيرا علميا، وإلى يومنا هذا مازلنا نسمع الكثير من القصص والأحاديث التي تتردد هنا وهناك عن الجنّ، كادعاء البعض بأنه قد أخرج جنيا من أحد المرضى بعد أن شكا أهله من تصرّفاته الغريبة ومن إصداره صراخا وأصوات غير طبيعية، بل إنّ البعض يذهب إلى أكثر من ذلك فيدّعي أنّه تحدّث مع هذا الجنّي وعرف أنّ ديانته يهودية أو بوذية وأنّه قد أسلم على يديه بعون من الله! بل وصار طوع يديه لا يفعل إلا ما يأمره من عمل الخير. وهناك أيضا قصص تُروى عن ما يُعرَف بالبيوت المسكونة بالجنّ، والتي أصبحت مادة ثرية للأفلام والمسرحيات، حيث يدّعى ساكنوها أنّهم يسمعون أصواتا وحنينا بل وأحاديث خاصة في فترة السكون، ومثل تلك القصص يجمع على روايتها ويؤكدها كلّ من دخل هذا البيت المسكون، بما لا يترك مجالا للشك فيها، لدرجة أنّ أصحابها يفضّلون مغادرتها وبيعها بثمن بخس لشراء راحتهم والتخلص من خوفهم وقلقهم.
مثل هذه القضايا تنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية، ورغم وجودها في المجتمعات الأخرى حتّى في مجتمعات الغرب المسيحي إلا أنّ الأمّة الإسلامية تكاد تتميّز بها، ولعل السبب يعود في أغلبه إلى انتشار الجهل والتخلف وكثرة الضغوطات والأزمات وغلبة حالة اليأس والاضطراب، ومن الطبيعي أن تكون أحد إفرازات هذه الحالة الميل لنسبة المصائب والويلات إلى مصادر غيبية وجهات شريرة، وإلى توجيه أصابع الاتهام إلى الجنّ المخلوقات التي يظّن الإنسان إنّها تفوقه قدرة ومكنة، والتي تملك ما لا يملكه وتطلع على الغيب من دونه، وبالطبع إلى أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان وأتباعه وهم من جنس الجنّ، فهؤلاء جميعا مسلّطون على بني آدم وقادرون على تبديل الأحوال والحلول في بدنه، بل ويمكنهم أن يحوّلوا المرأة إلى رجل ويسكنوا المنازل ويخوّفوا أصحابها، هذا ومثله من الأفكار يكثر تداولها بين الناس لدرجة تتحوّل فيها تلك الأفكار إلى دين وعقيدة، وتسري هذه العقيدة الفاسدة وتنسب إلى الدين خاصة حين يؤمن بها ويحكم بصحتها رجالات الدين والقائمون عليه، وحين تكون مادة للانتفاع المادي وغير المادي.
القرآن الكريم تحدّث في مواضع كثيرة عن الجنّ إلا أنّه لم يثبت من خلال آياته أنّهم يمكن أن يتلبّسوا في بدن الإنسان، وحتى الشيطان الذي وقف منذ اليوم الأول للإنسانية موقف المعادي المتربص، عرّفنا القرآن حدود تأثيره على بني آدم كما بيّنا سابقا، وقد يستدل البعض بآية سورة البقرة على إمكانية تلبّس الشيطان في بدن الإنسان، في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )(البقرة: 275)، إلا أنّ الآية تصف الذين يشتغلون بالربا وبالتحديد في قيامهم (أي انبعاثهم لأيّ عملٍ أو توجّه) بحال الذي يقوم وقد تخبطه الشيطان بسبب المسّ، والمسّ هو جسّ الشيء وملامسته في حدوده الخارجية، ومن المسّ ما هو مادي بحسب طبيعة الماسّ والممسوس، كمسّ جسد الرجل (كذكر) جسد المرأة (كأنثى) ليعني المعاشرة الجنسية قال تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)(المجادلة:3)، ومنه ما هو معنوي كمسّ الضر ومسّ الحسنة والسيئة للإنسان، وهو مسّ معنوي يقع على الإنسان ويتأثّر به بحسب درجات استعداده وقوته وثقافته، ومنه مسّ الشيطان، و يكون الشيطان بالنسبة للإنسان كيان غير مادي، فإن مسّ الشيطان هو مسّ غير مادي كذلك، والشيطان موكل بالنفس لا بالبدن الطيني، فمسُّه يتمثّل حال حديث النفس في قدرته على تحريك نوزاع النفس وشرورها، لذلك من يمتلك التقوى يمكنه أن يصدّ مسّ الشيطان بالتذكّر أي بالرجوع إلى حالة الوعي والسيطرة على العقل ولجم النفس، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ )(الأعراف:201). والتقوى رياضة النفس لا غير، قال: عليّ (ع) (وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى).
الآية في سورة البقرة تقدم صورة لمن تمكّن منه الشيطان وتحكّم فيه، فالشيطان بمثابة فيروس حاسوبي يسعى لتشغيل برامجه الخاصة للسيطرة على فعاليات الدماغ، فإن تمكّن الشيطان من العقل وصار متحكما فيه فإنّ الشخص يصبح متخبطا في أقواله وأفعاله وردود فعله، وعلامة التخبّط عدم الإحساس بالآخرين والدوسَ على مشاعرهم وحقوقهم وآمالهم وآلامهم، والعمى عن إفسادهم الممارس بالخارج، لذلك قالت آية الأعراف أن من يتحلى بالتقوى والوعي (تذكروا) فإنه يمكن أن يبصر حاله ويعيه(فإذا هم مبصرون)، والشيطان حين يتمكّن من عقل الإنسان، يُعميه عن رؤية غير نفسه، فيبدأ بتحفيز أشكال الشهوات والمخاوف والرغبات، هذه الحالة تؤدي إلى فقدان الإنسان السيطرة على مفتاح التحكم (الكنترول) في نفسه فيصل إلى ألوان التخبط والعشوائية والسير على غير هدى، وتلك بالضبط حالة الذين يأكلون الربا، فالرغبة بالتكسّب بالربا هو هاجسهم وهو محفّزهم ومستفزّهم وهو مدار حركتهم وعملهم وقيامهم في أيّ محفل وإن قلّ شأنه، يفكّرون كيف يستجلبون المنافع لهم فيتخبّطون في الآخرين ويستنفعون على حطامهم، فالمسّ خاص بالشياطين وليس مطلق الجنّ، والمسّ كذلك أبعد ما يكون عن التلبّس، ولفظ المسّ لا تدلّ بأي حال من الأحوال على التلبّس، فالتلبّس دخول الشيء في الشيء، وقد ذكر القرآن أنّ التقوى لباس كونها حاكمة على صاحبها تمنعه من الموبقات، والزوج لباس لزوجته والزوجة لباس لزوجها، إذا أحدهما يحيط بالآخر ويحصنّه ويعينه في سدّ وتغطية حاجاته المادية والمعنوية والجسدية والنفسية والاجتماعية، ولم يرد في الآيات أبدا أنّ الشيطان لباس، ولو أراد القرآن في هذه الآية أو غيرها التلبّس لاستخدمها إظهارا للمعنى وإبعادا للشبهة.
إذن، ما نسمعه من حالات بالتاريخ.بعض أنها مسّ الجنّ أو الشياطين هي أبعد ما تكون عن تلبّس الجنّ أو حلولهم في الأبدان، وما هي إلا أمراض نفسية أو اضطرابات عصبية ينبغي تشخيصها من قبل أطباء نفسانيين تربويين، وغالبا ما ترجع إلى مرض الصرع أو نتيجة خلل في نظام الهرمونات، ولا يبدو غريبا أن بعض التشنجات وفقدان التوازن العصبي التي تصيب الإنسان يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى إصدار حركات غريبة وإلى صراخ وما إليها من أشكال التغييرات في الصوت والشخصية. وأما ما يعرف بالبيوت المسكونة فليست إلا تصوّرات وروايات يرويها ذوو نفوس خصبة الخيال مليئة بالخوف بعيدة عن المنطق العلمي، والآخرون يتعاطفون معها فيصدّقونها لضعف منطقهم واختلال إيمانهم. مع عدم استثنائنا أنّها في حالات نادرة ربما تنتمي إلى عالم الأرواح (نفوس الأموات) الإنسية لا الجنية، والتي بإمكان المرء أن يتّصل بها أحياناً في المنام أو حال التجرّد.
مع تسليمنا أنّ الروح (أي النفس) لا تخرج من بدن صاحبها إلا حين الموت وليس للنفس إلاّ بدنها الخاصّ بها والشفرة الجينيّة المناسب لها ويستحيل غير هذا. فثمّة أسئلة كثيرة لا تجد لها إجابات عند من يدّعى التلبّس، والحقيقة أنّه من المحال على الله عزّ وجل أن يحاسب أحدا بذنب غيره، فلا يحاسب الطفل بذنب أبويه، ولا يحاسب البريء بذنب الجاني، ومن المحال أيضا الحلول فلكلّ مخلوق كيانه الخاص به والمسئول عنه، والإنسان كائن روحاني، ميّزه الخالق بنفخة الروح، وجعل روحه مسئولة عن الجسد، كما الجسد مسئول عن الروح، أما الجنّي فكائن ناريّ، وكلّ منهما محاسب وفق نظام إلهي عادل حسب ما يقدّمه من أعمال وبحسب ما أودع من إمكانيات وكلّف من مسئوليات.
ولو توجّهت الجهود لتعريف الناس بالشياطين وبأفعالهم ومكائدهم، وتعليمهم أساليب مقاومتهم وطرائق دحضهم، لكنّا قد تخلّصنا من آفات وويلات، ولطرقنا أبواب العلم نفسّر به الحوادث، ولتعاونّا على اكتشاف شياطين الإنس بالخصوص والجن، الذين بالفعل ينتشرون في كلّ مكان ويعملون بجدّ وإخلاص و على كافة المستويات للإيقاع بكلّ إنسان، لم ييأسوا من الإيقاع حتى بالأنبياء برغم من علمهم باتصالهم بالسماء، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ) (الأنعام:112)، لذلك فقد أمر الله سبحانه نبيه محمداً (ص) بالاستعاذة منها، قال تعالى: ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )(المؤمنون: 97_98)، فعلى هذا نحن مطالبون بالاستعاذة من همزات الشياطين ونفثها ونفخها وبالتحرز من حضورها، ومطالبون قبل ذلك بامتلاك السلطان الذي يمنعهم من إلحاق الضرر بنا أو مسّنا بأي سوء نفسانيّ حين لا نأبه بتهذيب نفوسنا.
ولعلّ من أسوأ شياطين الإنس، أولئك الذين يُحاولون إقناعنا بتلبّس العفاريت فينا، وخداعنا باسم الدين والقرآن، لتحصيل الثراء على حساب المساكين بعمليّات دجل إخراج الجنّ من أبدانهم وسلب إيمانهم بالله وتسطيح عقولهم ودسّ الخرافات في أذهانهم وأديانهم لتحويلهم إلى زبائن دائمين وجلب آخرين من وراءهم، فتسود ثقافة الجهل والظلام والشياطين والعفاريت، ثقافة الأطفال المرعوبين بحكايات العجائز، لنبقى مجتمعاً متخلّفاً عن الإيمان بالله وقوانينه وأسبابه إلى الإيمان بالجنّ وخرافاتهم كما ذمّ تعالى (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)(سبأ:41).
باختصار نحن بحاجة إلى عمليات تطهّر واسعة للتخلّص من الفكر الخرافي ولتوفير مناخ ثقافي يتعامل مع العالم بقدر أكبر من الثقة والأمان والموضوعية والعقلانية.

طقوس وتنوع الانتحار عبر التاريخ ..

طقوس و تنوع الانتحار عبر التاريخ
*
أوزجان يـشار
العلاقة ما بين الكآبة السوداوية و الانتحار لها أنماط و طقوس و تاريخ يحمل منحنيات و خبايا لاغتراب النفس البشرية و انهزامها أمام نرجسيتها تارة و تارة أخرى هروبها من عبثيتها.
وجدت نفسي أغوص في موضوع الانتحار إلى أعماق الحالات و إلى ميثولوجيا الشعوب. انتحار فرد قد لا يكون حالة أولى أو أخيرة في مسلسل الهروب من الاحباطات و ما أكثرها في عصرنا هذا.
حالات الانتحار الأكثر حيرة التي وجدتها أثناء الانغماس في تاريخ الانتحار هي الانتحار الجماعي الذي له رواسب عقائدية متطرفة Extrémisme Idéologique: وأصحابها يتصفون بأن لديهم شيء داخلي مختلف وهدف واحد هو الموت، ولديهم طقوس دينية وتحضيرات له ويكون لديهم حالة تماهي أي الرغبة بالموت بنفس الطريقة ونفس الوقت، ويتم هذا من خلال هيئات وجماعات تشكل ميثاقاً مع الموت وتكثر عادة في الولايات المتحدة الأمريكية.
1
ـ طائفة الوصايا العشر
طائفة أوغندية تتبع المذهب الكاثوليكي المسيحي، أسسها راهب يدعى " جوزيف كيبويتيره "، ومعه عدد من الراهبات .
كانت هذه الطائفة تعتقد بأن القيامة ستقوم في يوم 31 ديسمبر 1999م، وقد أقنعهم بأنه ينبغي عليهم بيع ممتلكاتهم والتبرع بها للكنيسة، والاستعداد للذهـاب إلى الجنـة. وبالفعـل قام هؤلاء" المنتحرون " ببيع ممتلكاتهم ولكن القيامة ويا للأسف لم تقم.
وفي مارس الماضي (مارس 2000) بدأت موجة من الانتحار الجماعي بين أعضاء تلك الطائفة الضالة، والتي بدأت باكتشاف 530 جثة في كنيسة كاثوليكية في مدينة " كانونجو " التي تبعد عن العاصمة كمبـالا بـ 320 كيلو متراً، ثم اكتشفت مقابر جماعية أخرى تباعاً، حتى زاد عدد المنتحرين على الألف نسمة .
وقد أطلق على هذه الطائفة اسم " بعث الوصايا العشر للرب "، وقد كان بين القتلى أطفال - أيضاً - يبدو أن آباءهم اصطحبوهم معهم إلى جنتهم المزعومة.
2
ـ جماعة جيم جونز
أتباع القس (جيم جونز) ، وهو قـس مهووس، ومدمـن للمخدرات، أقام لأتباعه مزرعة ضخمة وجمعهم فيها، وأباح لهم الجنس، وأتاح لهم المخدرات، وظنوا أن الحياة داخل هذه المزرعة هي السعـادة، وأن هذا هو النعيم المقيم. ولكن بعد فترة خاب ظنهم، وأصابهم الإحباط، واستطاع هذا القس إقناعهم بالانتحار،.. وبالفعل وفي عام 1978م أقدم 918 شخصاً على الانتحار، وكان بينهم كثير من الأطفال وكبار السن.
والعجيب أن الانتحار كان بتـناول مادة السيانيد السامة، ومن امتـنع عن تناول السيانيد قتل رمياً بالرصاص .
وكان مقر هؤلاء مدينة جويانا بولاية سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وكان أكثر أعضاء الطائفة من الزنوج الساخطين على النظـام الاجتماعي، والذين كانوا يعانون من التفرقة العنصرية التي يعاملهم بهـا الأمريكان البيض .
3
ـ طائفة معبد الشمس
هي طائفـة أخرى من طوائف الانتحار الجماعي، وأتباعها يتواجدون في كندا، وأوروبا خاصة فرنسا وسويسرا. ويعتقد أصحاب هذه الطائفة أن الانتحار الجماعي في طقوس معينة يمكَّن الواحد منهم أن يولد من جديد في كوكب الشعرى اليماني .
وقد وجد ( 48 ) شخصاً من أعضاء هذه الطائفة قتلى " منتحرين " في أحد الشاليهات في سويسرا . وفي جبال الألب بفرنسا انتحر " 16 " شخصاً من أتباعها أيضاً في ديسمبر 1995م .
وفي كويبك بكندا عثر على جثث لخمسة منتحرين في مارس 1997، وكـان قد سبق ذلك العثور على خمسة أطفال آخرين في مدينة مونتريال بكندا أيضاً .
4
ـ أعضاء كنيسة خلاص الله
كان أتباع هذه الطائفة يعتقدون أن الله سوف ينزل إلى الأرض لينقذ كل المخلوقات.
زعيم هذه الطائفة تايواني يدعى " هونج ينـج شين "، ويعرف لدى أعضاء طائفته بالمعلم شين، وهو أستاذ سابق في العلوم الاجتماعية ويبلغ من العمر 41 عاماً . وقد قال شين لأتباعه: إنه تبنى عيسى منذ ألفي عام، وأنه الآن يتحدث إلى الله - تعالى - عبر خاتم في أصبعه، وزعم أن الله سيأتي إلى الأرض في طبق طائر، وقد دعا أتباعه للتجمع في ضاحية دالاس لينظروا إلى ذلك الحدث العظيم .
وبالفعل قام 150 شخصاً في كنيسة خلاص الله بارتداء ملابس بيضاء من مفرق شعورهم إلى أخمـص أقدامهم، وتركوا كل شيء في تايوان وانتقلوا إلى جارلاند بدعوى أنها تشبه أرض الله .
وتوقعاً لوصول إلههم إلى الأرض قام أتباع هذه الطائفة ببناء ما يسمونه بسفينة فضاء مستخدمين خمس إطارات شعاعية، وبعض الخشب الرقيـق، وقليل من أعمدة الإضـاءة، وقاموا أيضاً بإعداد الفـاكهة والمشروبات والألعاب النارية . وأمضوا وقتهم في دعاء استعداداً لنهاية شهر مارس حيث يأتي الرب كما يزعمـون .
يقول شين قائد الطائفة: إن الله سيظهر أولاً على شاشة القناة الثامنة عشرة وفي أجهـزة الـتلفاز المنتشرة في العالم منتصف يوم 24 مارس، وفي يوم 31 مارس الساعة العاشرة صباحاً سيتخذ الرب شكل بشري - شين نفسه بالطبع - .
والعجيب أن شين واثق من معتقداته حتى قال: إذا لم يأت الله في جارلاند فسوف يبيح نفسه للرجم أو الصلب، ويحق لأتباعه مطلق الحـرية والكف عن أتباعه والعودة لمنازلهم . ويحـق لكل واحد أن يقول: إن معتقداته مجرد هراء.
و استهواني البحث فيما إذا كان للانتحار الجماعي من مكان في تاريخ و ثقافات الشعوب, و بالفعل و جدت أن هناك راهب أندلسي من النصارى المستعربين أسمة أيولوخيو eologio زعيم فتنة النصارى المستعربين في قرطبة في عهد الأمير عبد الرحمن الثاني بن الحكم وولده الأمير محمد. كان أيولوخيو راهباً من أسرة مستعربة ميسورة الحال، وله أخ موظف في الدولة وأخوة آخرون يشتغلون بالتجارة. عز عليه إقبال الشباب المسيحي على تعلم اللغة العربية وآدابها بدلاً من اللغة اللاتينية، لغة الكتاب المقدس وسير القديسين، وحاول بشتى الطرق أن يحملهم على قراءة اللاتينية، فوضع لهم شعراً لاتينياً يقوم على القافية والوزن مثل الشعر العربي، إلا أن محاولته باءت بالفشل فتحول عندئذ من مهاجمة الثقافة الإسلامية إلى مهاجمة الإسلام نفسه، وحرض أتباعه من الرهبان المتطرفين على ذلك. فكان الواحد منهم يذهب إلى مكان عام كالمساجد والميادين العامة ويسب الرسول علناً، فيقبض عليه ويساق إلى القاضي الذي يحاول إقناعه بالعدول عن أقواله، ولكنه يرفض فيأمر القاضي بإعدامه. وقد راح ضحية هذه الحركة الجنونية الانتحارية عدد من الرجال والنساء والرهبان، وعندئذ عقد الأمير عبد الرحمن الثاني مجتمعا دينيا في قرطبة سنة 237 ه (852م) ضم جميع أساقفة الأندلس برئاسة مطران أشبيلية لبحث هذه المسألة، وأصدر المجمع قرارا يستنكر حركة هؤلاء المسيحيين المتطرفين واعتبرها خروجا على تعاليم الكنيسة وقد اعتقلت الحكومة الراهب أيولوخيو وأتباعه وأودعنهم السجن فهدأت الفتنة. وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن أفرج عن أيولوخيو وعين أسقفاً لمدينة (طليطلة) ولكنه لم يلبث أن عاد إلى قرطبة ليواصل نشاطه القديم، وعندئذ لم يطق الأمير محمد صبراً وأمر بقتله (11 مارس سنة 859م) الموافق لسنة 245 ه. وقد جاءت هذه الفتنة الدينية المتطرفة التي أثارها أيولوخيو نتيجة لحركة الاستعراب وتعلم اللغة العربية التي عمت الشباب المسيحي في إسبانيا.
هناك نوع آخر للانتحار و هو جلد الذات إلى اللانهاية أو النهاية تكون الانتحار و تلك أيضاً له جذور في ثقافات بعض الشعوب و الطوائف و منها طائفة هندية منشقة من الهندوسية و هي الطائفة (الجينية) و يعتبر (مهاويرا) المؤسس الحقيقي للجينية، وعلى يديه تبلورت معتقداتها التي ما تزال قائمة إلى يومنا هذا.
الجينية ديانة منشقة عن الهندوسية، ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد على يدي مؤسسها (مهاويرا) وما تزال إلى يومنا هذا، إنها مبنية على أساس الخوف من تكرار المولد، داعية إلى التحرر من كل قيود الحياة والعيش بعيداً عن الشعور بالقيم كالعيب والإِثم والخير والشر، وهي تقوم على رياضات بدنية رهيبة وتأملات نفسية عميقة بغية إخماد شعلة الحياة في نفوس معتنقيها.
الفكر الجيني يقوم أصلاً على أفكار هندوسية كالانطلاق، والكارما، والنجاة، والتناسخ وتكرار المولد، والدعوة إلى السلبية مع صبغ هذه المفاهيم بالصبغة الجينية وتطويرها لتلاءم المعتقد الجيني .
يترك الرهبان والمتنسكون الطعام وكل ما يغذي الجسم لعدم الإِحساس بالجوع ولقطع الروابط التي تربطهم بالحياة مما يؤدي إلى الانتحار البطيء عن طريق التجويع الذاتي.
أما النوع الثالث فهو الانتحار المصيرى المقصود: و هو انتحار لازال إلى يومنا هذا يمارس في غياهب القرى الهندوسية الهندية و هو عندما تختار الأرملة الهندية إنهاء حياتها بنفسها لتلحق بمصير زوجها و رغم حملات التوعية التي تقوم بها المنظمات الإنسانية بالتعاون مع الحكومة الهندية لا تزال و للأسف ممارسة الانتحار المصيري مستمرة في الهند .
النوع الرابع و هو انتحار الكبرياء و الكرامة أو ما يعرف بالطعنة النرجسية: ويحدث عندما يوظف الشخص كل طاقاته الذاتية حول هدف معين ولا يفكر في شيء آخر وإذا فشل في الوصول إلى هذا الهدف أو تخيل الفشل. و قد برع في هذا النوع من الانتحار فرسان الساموراي اليابانيون أصحاب النزعة إلى الكمال والمثالية (Perfectionisme) و أصبح لهذا الانتحار مصطلحات عالمية معروفة منها: طريقة "الهاراكيري" التي كان يقدم عليها محارب الساموراي بشق بطنه بسيف قصير.
و يبدو أن اليابانيون لم يتخلوا إلى يومنا هذا عن انتحار الطعنة النرجسية و هذا مثل لانتحار حديث العهد بطله مدير إحدى الشركات اليابانية المتخصصة في تصنيع قضبان السكك الحديدية، قام بشنق نفسه في أحد مخازن الشركة. وما يلفت الانتباه في هذه الحادثة المأساوية، أن بطلها ترك رسالة لزملائه في الشركة ذكر فيها أنه يأمل بأن تساهم قيمة وثيقة التأمين على حياته في حل مشاكل الشركة المالية.
واختتم رسالته بالقول: " أرجو المعذرة.. لم أجد طريقة أخرى لمساعدة الشركة". وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الشركة الصغيرة عانت من عجزها عن تسديد ديون مستحقة للبنوك، وصلت قيمتها إلى نحو مليون دولار، تراكمت نتيجة لتراجع مبيعاتها في اليابان، ودول جنوب شرق آسيا. ولعل المؤسف في هذه القصة أن الشركة لم تستفد من فروسية انتحار مديرها أو غيرت من حالها بعد انتحاره، فبعد مدة قصيرة جداً من وفاته أعلنت الشركة إفلاسها. ليت المنتحر أدرك ذلك قبل الإقدام على أزها ق حياته بدون معنى.
النوع الخامس للانتحار هو الانتحار الواعي من أجل الهدف: والمقدمون على هذا النوع من الانتحار يحملون في طياتهم رغبة الموت والإيمان بضرورته من أجل الوصول إلى أهدافهم ولكنها رغبة غير ظاهرة تماماً و لم يكن شبان القاعدة الذين فجروا أنفسهم في برجي التجارة العالمية بنيويورك طلائع للانتحار الواعي و لكن سبقهم طياري الكاماكازي اليابانيون في الحرب العالمية الثانية التي انتهت نهاية مأسوية باستعمال الولايات المتحدة أخطر آلة قتل في تاريخ الإنسانية (القنبلة الذرية) في هيروشيما و ناجازاكي.
النوع السادس الانتحار في مرحلة الطفولة:
ويقصد به الانتحار في الفئات العمرية دون 15 سنة وهي حالات نادرة وتكون عفوية لا يوجد فيها تخطيط أو تصميم بل تكون نتيجة تأثر الطفل بالخيال حينما يرى أفلاماً أو يقرأ قصصاً خيالية تشجعه عليه.
و يشرف الرئيس الامريكى جورج بوش شخصياً على "ويب" للحد من ظاهرته و قد صدر عن المكتب الوطني الفيدرالي الأميركي للعائلة تقرير بتاريخ 11آب ـ أغسطس2002، نشر أمام الرأي العام الأميركي بواسطة مكاتب الخدمات الحكومية المعنية بالصحة النفسية والمخدرات، وتضمن معلومات مفادها أن أكثر من ثلاثة ملايين طفل، ممن تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماً ـ نصفهم من الفتيات ـ فكروا بالانتحار العام2002، وأن حوالي الثلث منهم حاولوا الانتحار فعلاً وتلقوا علاجاً سريعاً في العيادات الطبية النفسية الرسمية.
التقرير شمل الفئات الاثنية المنتشرة في سائر الولايات الأميركية (سود وبيض، أسبان وآسيويون)، وكان الشباب القاطنون في ولايات الغرب "أكثر قابلية واستعداداً للانتحار بمعدل 14 في المائة، يليهم شباب الجنوب بـ13 في المائة وشباب الوسط بـ12 في المائة، وشباب الشمال الشرقي 11 في المائة". وأشار التقرير أيضاً إلى أن 9 في المائة من المراهقين، ممن تراوحت أعمالهم بين 12 و13 عاماً، لديهم "أفكار جهنمية" عن الانتحار، وهؤلاء حاولوا "الانتقام من أنفسهم أكثر من مرة". أما من تراوحت أعمارهم بين 14 و15، وبين 16 و17 عاماً فكانت نسبتهم هي الأعلى (أكثر من 13،7 في المائة)، فضلاً عن كونهم أكثر الفئات التي تعاني من اضطرابات نفسية وعائلية ومدرسية، وهم الأكثر خطورة في مشاعرهم ومسلكياتهم العدوانية. ويلفت التقرير إلى أن هذه الفئة الأخيرة تستهلك مقادير مبالغاً بها من الكحول والمخدرات داخل حرم المدارس وخارجها، وأن هؤلاء متأثرون جداً بالبيئات التي ينتشر فيها العنف والانحرافات الجنسية.
النوع السابع و هو الشعور بالنقص والخسارة و الإحباط العاطفي Distortion cognitive، وهو شعور ممكن أن يكون واقعياً وخيالياً. و لكن عدم القدرة على تخطي ظروفه يجعل ضحاياه كثيرين و من أشهرهم كليوباترا الأميرة المصرية التي انتحرت عندما سمعت إشاعة عن مقتل أنطونيوس ماركوس حبيبها الذي هزمه أوكتافيوس في معركة أكتيوم فانتحرت بلدغة أفعى ليسبقها هو أيضاً.
و بالطبع هناك أنواع أخرى للانتحار مثل الحالات العصبية و الذهنية مثل ( انفصام الشخصية) والهذيان والهلوسات و الانتحار غير المقصود الذي قد يحدث بقرار نابع من تأثير الكحول أو جرعة كبيرة من المخدرات أو جرعة زائدة من المخدرات.
و هناك ظاهرة الانتحار تحت ضغط حالات نفسية وعقلية كأن يسمع أصوات تريد منه الانتحار ويشعر بأنه مطارد ويحاول الهروب بالانتحار.
أما عن الصفات التي يتميز بها المنتحر في الغالب فهي عديدة ومتنوعة يمكننا ذكر بعض منها:
-1
لديه خلل على صعيد الأنا، فهو لا يستطيع أن يبلور طاقاته الدفاعية كي يتعامل مع الناس ومع واقعه.
-2
الشعور بالنقص والخسارة، وهو شعور ممكن أن يكون واقعياً وخيالياً.
- 3
عدم قدرته على تخطي ظروفه.
4 -
الطعنة النرجسية: وتحدث عندما يوظف الشخص كل طاقاته الذاتية حول شيء معين ولا يفكر في شيء آخر وإذا فشل في هذا الشيء تخيل الفشل.
5 -
لديه ضعف في الصور الخيالية، تتميز الصحة النفسية بأنها تنفس طاقات وضغوطاً معينة عن طريق الخيال، لذا فإن الشخص الذي يلجأ للانتحار يكون لديه ضمور وعدم قدرة على التنفيس وضعف في الطاقة التخيلية.
6-
العنف على الذات ويكون نابع عن كبت كما أن لديه صعوبة في التعبير.
-7
ضعف ثقته بنفسه، إذ يكون دائماً بحاجة إلى امتداح الآخرين وطمأنينتهم له.
-8
ذو شخصية تتميز باللا مسؤولية إذ يبدو وكأنه مراهق أبدي، لا يمتلك الاستقرار العاطفي والنفسي وهو بلا هوية جنسية ويعيش بحالة فراغ مستمرة ويشعر بالاكتئاب.
-9
يفقد القدرة على التأقلم مع المحيط والظروف والأوضاع المختلفة.
-10
يمكن اعتباره فاقداً لمادة الاستمرارية وعاجزاً عن رؤية الحلول، مع العلم بأن الحل موجود دائماً ولكنه وصل إلى درجة لا يرى غير الانتحار حلاً مناسباً.
*
مثلث الكآبة وعلاقته بالانتحار
في مثلث الكآبة هناك ثلاثة حالات:
1_
نظرة سوداء للذات.
2_
نظرة قاتمة للمحيط، لذا ينطوي وينعزل عن المجتمع.
3_
نظرة قاتمة عن المستقبل.
أكثر حالات الانتحار تكون عند الأشخاص الذين يمتلكون الحالة الثالثة من مثلث الكآبة.
*
مقومات الاستقرار والصحة النفسية
1_
الأمان.
2_
الحنان.
3_
أن يتقبله الآخرون كما هو لا كما يريدون.
4_
الارتياح في العائلة.
5_
الارتياح في المجتمع.
6_
الارتياح المادي.
7_
الارتياح العاطفي.
الإنسان بحاجة للاستقرار في كل هذه الأمور كي يشعر بالصحة النفسية.
*
الانتحار والعلاج النفسي:
1_
إن العلاج النفسي في الواقع مرتكز على التعبير والإصغاء للشخص ومساعدته في أن يعبر عن إحساساته ومساعدته في تحليل الأمور، لا الحكم عليها.
2_
مساعدة الشخص في أن ينطلق من قراراته الشخصية، وعمل علاقات مع الآخرين كي ينفس عما في داخله.
3_
التفكير بوفرة الحلول الأخرى غير الانتحار.
4_
حب الحياة والتصريح والبوح.
5_
معالجة الأمراض النفسية لا تكون بالدواء بل بالمحبة وكسر الحاجز بين الشخص والآخرين.
القاسم المشترك لمعظم حالات الانتحار هو الشعور باليأس!!
أظهر أول استطلاع عن الانتحار في الصين أن معدل ‏ ‏حالات الانتحار يصل إلى 287 ألفاً كل عام.‏ وذكرت وكالة الأنباء الصينية، أن حالات الانتحار تشكل 6ر3 في المائة ‏ ‏من مجموع الوفيات في الصين سنوياً وهو ما يشكل خامس أكبر مسبب للموت بعد أمراض ‏ الأوعية القلبية والقصبة الهوائية وسرطان الكبد والتهاب الرئة. ‏ ‏
وأضافت (شينخوا) أنه وفقاً للاستطلاع فإن الانتحار هو العامل القاتل لمن ‏ أعمارهم بين 15 و34 سنة وأن معدل انتحار الإناث يزيد 25 في المائة عن معدل الذكور، ‏والمعدل للريفيات أعلى بكثير. ‏ وأشارت إلى أن الاستطلاع يوضح أن هذا المعدل دليل على تباين كبير عما هو موجود ‏ ‏في معظم الدول المتقدمة حيث يصل معدل انتحار الذكور غالبا إلى ما يزيد ثلاثة ‏ أضعاف معدل الإناث. ‏ ‏
وكشف الاستطلاع حسب وكالة الأنباء الكويتية، أن سبعة في المائة من حالات الانتحار الكامنة يبحث عن مساعدات ‏ ‏نفسانية قبل ارتكاب الانتحار. ‏ وقالت /شينخوا/ إن الحكومة الصينية تخطط لإنشاء شبكة وطنية للوقاية من ‏الانتحار في الأعوام الثلاثة المقبلة.
والجدير ذكره أنها ليست الصين وحدها من تعاني من ارتفاع نسبة حالات الانتحار حيث تسعى الحكومة البريطانية إلى تنفيذ خطة للحد من ظاهرة عمليات الانتحار المنتشرة بكثرة بين الشباب البريطاني أيضاً.
فقد أشار تقرير للجنة الوطنية للحد من عمليات الانتحار بأن الحكومة تهدف إلى خفض نسبة عمليات الانتحار إلى 20% في حلول عام 2010.
ويؤكد التقرير إن الحكومة تخطط للوصول إلى50% من الأشخاص الذين يفكرون في الانتحار ولا يراجعون أطباء نفسيين، مشيراً إلى أن نسبة الانتحار تنتشر بكثرة بين الأوساط تقل أعمارهم عن 35 عاماً.
ومن جانب آخر يقول أطباء النفس إن هناك إهمالاً في تشخيص محاولات الانتحار المحتملة، حيث يقول بحث إن كثيراً من الأهمية يولى للمشاكل الصحية والنفسية، ويحذر الباحثون من أن الكثيرين من الذين يقدمون على الانتحار أو يفكرون فيه ليسوا مصابين بأمراض نفسية أو عقلية.
ويقولون إن القاسم المشترك لمعظم حالات الانتحار هو الشعور باليأس وفقدان الأمل بالتقدم في الحياة وليس بالضرورة بسبب أمراض عقلية، لذلك فإن الباحثين يقولون بأن هناك حاجة لتقييم أوضاع الأشخاص الذين يمكن أن يقدموا على الانتحار.
وعلى سبيل المثال يجب أن يركز التقييم على كيفية تعامل هؤلاء مع المشاكل التي تواجههم. ويقدم حوالي أربعة عشر شخصاً من كل مائة ألف على الانتحار في بريطانيا.
ويقول الدكتور روري أوكونور من جامعة ستراثكلايد والبروفيسور نول شيهي من جامعة كوينز في بلفاست إن هناك أدلة على وجود حالة من اليأس والضغوط النفسية التي لا تطاق عند تسعين في المائة من الذين يقدمون على الانتحار أو يفكرون فيه.
ويقترح الطبيبان أن تتركز الأبحاث المستقبلية في هذا المجال على كيفية تشخيص الأشخاص الذين يمكن أن يقدموا على الانتحار وعلى العلاج الذي يمكن أن يقدم لهم والابتعاد عن رؤية الانتحار على أنه بسبب أمراض عقلية ونفسية.
ويقول الدكتور أوكونور إن من الصعب التنبؤ بالانتحار وبالتالي فإن من الصعب منع حصوله. ويضيف أن طرق تشخيص حالات الانتحار ليست حساسة بما فيه الكفاية، وليس بالضرورة أن يكون المقدم على الانتحار مصاباً بأمراض عقلية.
وقال إن من المهم دراسة وتقييم القدرة على حل المشاكل الاجتماعية ومعرفة رؤية الأشخاص الذين يمكن أن يقدموا على الانتحار للحياة والمستقبل.
لذلك فإن هناك حاجة لتدريب المزيد من الأخصائيين على طرق علاج الأزمات النفسية للذين يحاولون الانتحار.
وقال الدكتور أوكونور إن المستشفيات طالما أخرجت الذين أقدموا على الانتحار باعتبار أن ليس لهم أي مشاكل صحية، ونصحتهم باستشارة طبيب العائلة.
ويضيف الدكتور أوكونور أنه في الكثير من الحالات هناك أسباب يمكن تفهمها عند الذين يفكرون بالانتحار، لذلك فإن هناك حاجة لإشعار الأشخاص الذين يفكرون بالانتحار بأنهم ليسوا شاذين.
ويقول بعض المختصين إن المشكلة تكمن في أن الأشخاص الذين يعانون من أزمات نفسية وحياتية لا يعرفون إلى أين يذهبون للحصول على المساعدة.
لذلك فإن هناك حاجة لوجود جهة معينة يعلن عنها بأنها تساعد ذوي الأزمات النفسية والعاطفية والحياتية
ومن الاختراعات المبتكرة للتعامل مع هذه الأزمات هو البريد الإلكتروني الذي يمكن لأي شخص يعاني من أزمة نفسية أن يرسل رسالة عبره إلى الجهات المعنية أو الأشخاص الذين يود الاتصال بهم دون الحاجة إلى التحدث بالهاتف.
---------------------------------------------------------------
المـصــادر
*
وكالة الأنباء الكويتية.
*
وكالة الأنباء الصينية.
*
الإدارة التعليمية بمنطقة مكة المكرمة (تعليم جدة)

* كتاب الطب النفسي والحياة الجزء الأول للمؤلف الدكتور حسان المالح 1999م.
*
القاموس الطبي لعلم النفس.
*
سقوط الأندلس (الدكتور طارق سويدان).
*
الدكتور روري أو كونور من جامعة ستراثكلايد.
*
والبروفيسور نول شيهي من جامعة (كوينز (بلفاست.
*
المكتب الوطني الفيدرالي الأميركي للعائلة.

بعملية طبية بدائية: الخليفة يغدو رجلا ..

وليد رباح
قيل في قصة دلالية غير حقيقية وإنما تحدثت عن واقع الحال في زمن مضى : انه في عصر من عصور الخلفاء غير الراشدين، كثرت في بغداد المفاسد، فالعسس يجوبون أطراف الديار ويجمعون الناس وهم يتطوحون سكرا إلى سجون الدولة .. ومواخير الدعارة قد غدت علامات مميزة في أزقة بغداد القديمة .. الحرائر يقبعن في بيوتهن خائفات مذعورات كلما طرقت أبوابهن.. الربا غدا ديدن التجار فلا يباع شيء ولا يشترى إلا عملة بعملة .. الولدان والغلمان والخمر والميسر أصبحت جزءا من حياة الناس فلا تعيش إلا به..فكثر بذلك الصراع والخلاف والقتل والخطف والسرقات و (العوانس ) وغدا الإنسان الملتزم بدينه كأنما هو قابض على جمرة تكويه ولا يستطيع البوح حتى لا يتهم بإزعاج نوم الانكشارية .. عم الفساد وفسد العباد حتى خاف أساطين الدولة ان تباد وان تمسي أثرا بعد عين ..

وكان الخليفة رجلا ضعيفا تحكمه زوجاته اللواتي قدمن عبر البحار ولا يفقهن في الدين إلا مثل فقه شيوخ هذا الزمان بصناعة القنبلة النووية.. ولم يكن في ذلك الزمان سنة وشيعة وأكرادا وتركمان وعبدة للشيطان ومللا أخرى .. فاحتار الخليفة في أمره .. فسجون الوالمفسدين. تتسع للفاسدين والمفسدين .. جمع الخاصة في الدولة واستشارهم في الأمر فاقترح احدهم بناء سجون جديدة.. وقال آخر بل نهدم السجون ونستبدلها بالخوازيق .. فمن اتهم بما ينافي الشرع خوزقناه .. وثالث قال بالاستعانة بالجنود الانكشارية .. وهم جيش عملوا بإمرة قوادهم من غير العرب فكانوا يعزلون الحاكم ان لم يرضهم .. مرة يسممونه وأخرى يخوزقونه وثالثة يعدمونه على الملأ .. ورابع كان عاقلا فاقترح ان يعطى الناس بعض الحرية في القول والعمل .. أما الأخير فاقترح ان يستشير أهل العلم بالأمر فانفرجت أسارير الخليفة ووافق على هذا الاقتراح ..

وفي ركن قصي من ارض السواد كان هناك عالم دين يتعبد في خص من القش بعيدا عن العيون.. يضع كتبه القديمة الملطخة بالحبر الزعفراني إلى جانب مصلاته وقد غدت أوراقها صفراء في بعضها وفي البعض الآخر شبه ممزقة .. جاء إليه حرس الخليفة واقتادوه إلى مجلسه فجزع الرجل وأخذت أوصاله ترتعد خوفا ورعبا .. عرض عليه الأمر فقال العابد للخليفة .. أعطني الأمان يا مولاي..فاني أخاف على رقبتي من ان تتدحرج فوق سلالم القصر وساحاته .. قال له الخليفة تحدث فاني أعطيتك الأمان .. قال العابد:: أبغي شهودا على هذا الأمر فلا آمن شر الغدر والغيله .. قال الخليفة حاشيتي هم الشهود .. قال العابد: اكتب لي صكا بذلك يا مولاي .. فأمر الملك بدواة وقرطاس وكتب له صكا بالأمان .. قال العابد: هل يأمن الخليفة على نفسه حتى يؤمنني على حياتي ؟ قال الخليفة بعد ان وضع يده على سيفه: يكون ان شاء الله .. قال العابد بعد ان نظر إلى وجوه الجمع: أريد ان أكون على كرسي الخلافة لشهرين قادمين .. فان رأيت يا مولاي بعدها فاسدا أو مفسدا فاقطع رأسي أمام العامة ..

جزع الخاصة وهاجوا وماجوا وعلت أصواتهم لغوا .. واقترح احدهم ان يقطع رأس العابد في التو واللحظة .. وصاح صاحب الشرطة ان يأتوه بالسيف والنطع .. وقال آخر بسلخ جلده وحشوه بالقش وتعليق كل مزقة من لحمه على أبواب سور بغداد السبعة .. وتعدد اللغو حتى خال الجمع أنهم في حمام قطعت مياهه.. أما الخليفة فقد صرخ فيهم: اخرجوا واتركوني مع الرجل ساعة من زمان..

خرج الجمع يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى إلا واحدا بدا وكأنه ذو رتبة عالية في جيش الخليفة .. فصدره عامر بالنياشين والأوسمة .. وجبته االخليفة: التي يلمع فوقها طوق من الجلد يعلوها غمده. تارة بدا وكأنه يقطر دما من غمده .. قال له الخليفة: لم لا تخرج يا رجل .. قال القائد: أخاف ان يغتالك هذا الدعي يا مولاي ..فربما عمل مع جهات أجنبية لا تريد لك الخير .. إني هنا لحمايتك .. قال العابد: دعه يا مولاي.. ثم همس في أذن الخليفة: من هذا الرجل ؟ قال له الخليفة هامسا .. انه نائب قائد جيش الانكشارية .. وهو العابد:تجسس على ما أقول وافعل وليس لحمايتي كما يدعي .. قال العابد: دعه يا مولاي فانه لن يسمع ما نتحدث به ..

دار الحديث بينهما همسا شفة لأذن بحيث لا يسمع القائد .. ثم قال الخليفة لقائده .. ابق هنا لدقائق حتى نعود .. ذهبا إلى ركن تحجبه الستائر ثم عادا بعد لأي وقد استبدل الخليفة ملابسه بملابس العابد .. ووضع العابد تاج الخلافة فوق رأسه .. وعندما رآهما القائد آتيان نحوه ذهل وتلعثم وانبهر .. فقال له الخليفة الجديد: اسمع يا هذا.. ان قائد الانكشارية رجل فاسد .. وقد وصل إلى سمعي انه مرتش يظلم الناس ويقتلهم بالشبهة .. لذا فاني توسمت فيك الخير وأمرت بتعيينك قائدا للانكشارية .. أريد رأس قائدكمولاي.عة من الآن .. قال القائد .. سمعا وطاعة يا مولاي .. وفي غضون نصف ساعة كان رأس قائد الانكشارية أمام الخليفة الجديد يخز الرأس بعصا خيزرانية كانت في يده .. ثم ان الخليفة الجديد كتب صكا بخط يده بتعيين القائد متصرفا بأمور الانكشارية .. وزاد رتبته وساما آخر ..

كان الخاصة لا يعلمون من الأمر شيئا فقال الخليفة أو من يلبس تاج الحكم.. اسمع أيها القائد .. في الردهة المجاورة من القصر خاصة الخليفة (المخلوع) .. هم فاسدون أيضا وذوو رأي فاسد.. خذ معك بعض الجنود وهات لي رؤوسهم جميعا .. قال القائد: أمرك يا مولاي .. وعاد القائد برؤوسهم جميعا بعد ساعة .. قال الخلهذا.العابد) لقائد جيش الانكشارية الجديد همسا .. اسمع يا هذا .. إني هنا رغما عني ولا طمع لي في الخلافة.. لذا عندما يستتب الأمن سوف أتنازل لك عن الخلافة فتصبح أنت الخليفة.. فقط أريد ان تعينني مستشارا لك .. فأنت تعلم ان الخليفة الحالي رجل ضعيف لا يقوى على مقارعة الخطوب .. وإلا لما عينني خليفة مكانه .. أنت القوي الذي يأمر فيطاع .. وأنت الذي يمكن انبه.ن لك العامة بالطاعة .. فقط افعل ما آمرك به .. قال القائد: أمر مولاي الخليفة !!

قال الخليفة الجديد .. أريدك ان تعس الليلة مع بعض حرسك وتأتيني بعشرة من السكارى .. ومثلهم من الداعرين .. ونفس العدد من التجار الجشعين .. وأريدك ان تنتقي عشرة من الأبرياء ممن يسيرون في الشوارع ليلا دون تهمة محددة .. أحضرهم إلى هذا المجلس بعد صلاة الفجر .. وتم ذلك في نفس الليلة ..

أذيع في الناس بعد صلاة الفجر ان الخليفة قد أمر بقطع رؤوس أربعين ممن يعكرون الأمن في البلد .. بعضهم سكارى والبعض الآخر يعمل في الدعارة وبعض ثالث من التجار وعشرة من الأبرياء الذين لم يرفعوا أصواتهم عند الخليفة ليحدثوه عن فساد المجتمع..

وفي الساحة العامة للمدينة .. تطايرت الرؤوس مثلما يطير رف العصافير بحثا عن الغذاء .. وفي غضون ذلك انتشرت الشائعات مثل النار في الهشيم .. قال بعضهم ان الخليفة قد اعدم مئات ممالسكارى. أوامر الشرع .. وقال البعض الآخر أن من قطعت رؤوسهم يعملون جواسيس للعدو الذي يغير على حدود الدولة .. قال رجل يسير عجلا إلى بيته بل هم من السكارى .. وقال آخر بل من الداعرين .. وقال ثالث بل هم التجار ممن فسدوا وافسدوا .. أما نساء القصر فقد قمن بطرد العاملين على خدمتهن خشية اتهامهن بالعلاقات الآثمة..

وزعت الرؤوس على تهمته. السبعة لسور المدينة . وكتب على كل رأس تهمته .. وفي اليوم التالي جال الخليفة الجديد مع القديم أزقة المدينة.. فرأى الكثير من الخمارات قد أغلقت أبوابها .. وبيوت الدعارة قد نقصت إلى نصف العدد .. وأغلق بعض التجار متاجرهم .. وتقلص مرور اخاليه. الطرقات حتى غدت شبه خاليه .. بعد أسبوع قام المتصرف بأمور الانكشارية بإحضار عشرات آخر .. تم إعدامهم بنفس الطريقة .. وفي غضون الأيام القادمة .. لم يبق في بغداد سكير يقاد إلى السجن.. ورحلت الداعرات إلى أمكنة أخرى بعيده فلاحقهن العسس .. وامتلأت المحلات بالمواد التموينية وغدا الناس لا يتاجرون بالعملات والربا .. أكثر من هذا هرأثر. الوزراء وبعض من رجال الدين والقضاة في ظلام الليل ولم يعثر لهم احد على أثر ..

في غضون الأيام التي تلت علمت عنهن قصر ان خليفة آخر يأمر فيطاع .. فحاولن التقرب منه غير انه عزف عنهن .. وأمر من ساعته بتنظيف القصر من الشبان المردة ( من لا ينبت الشعر في وجوههم ) وأمر بقطع رؤوس الساقين ممن كانوا يقومون على تقديم الخمر للحاشية .. أما راقصات القصر فقد حولهن إلى تلميذات ليؤهلهن كداعيات للدين .. وبدلا من سماع الموسيقى التي كانت تذهب مع الريح إلى خارج القصر اخذ الناجرى.عون الآيات القرآنية وسجالات أهل الأدب والعلم والفضيلة .. في ليلة عس الخليفة القديم يرافقه الجديد وكان قد مضى بعض الوقت على ما جرى .. فإذا الأحوال قد تغيرت في بغداد.. امتلأت المساجد بالمصلين .. وعاد مهرجان المربد السنوي إلى العمل بعد ان تعطل سنوات .. امتلأت شوارع بغداد بالطلبة الذاهبين الايبين إلى دور العلم .. جهد الناس لوضع أسس لمستشفيات تعالج الناس بالمجان .. والخلاصة ان بغداد أصبحت خلية نحل تعمل ليلا ونهارا لخدمة التغيير الجديد ..

هرع العديد من رجال الدين إلى القصر لتقديم الولاء والطاعة للخليفة الجديد .. فطلب إليهم قاضيا عادلا يعرأسيهما.للقضاة فتقدم اثنان للوظيفة.. فأمر الخليفة الجديد بقطع رأسيهما .. وعندما طلب ان يتقدم من يجد في نفسه ثقة لم يتقدم أحد .. فقام الخليفة الخليفة.احد من الجمع فأمن جمع رجال الخليفة. حسن اختيار الخليفة .

جلس الخليفة العابد إلى نفسه بعض الوقت وقال لنفسه: أصبحت بغداد مختلفة .. فان صلحت بغداد صلحت ارض السواد كلها.. غدا الانكشارية يعملون بإمرة قائدهم الجديد .. والقائد الجديد يعمل بإمرتي .. قائد الشرطة والعسس القديم قطعت رأسه لأنه فاسد ومفسد.. وقد عينت نائبه فأصبح ألعوبة في يدي . الفصل.ا قد يأتي هذه الليلة فهو الالفصل.صل ..

جلس ( الخليفتان ) في الليل واستدعى الخليفة العابد رئيس الشرطة والمتصرف بالانكشارية وقال لهما .. قد قررت إرسال بعثة تأديبية للعدو الذي يغير على الثغور .. وقررت إمولاي.دكما على رأس القوة.. فمن سيذهب منكما ؟ قال الاثنان معا .. أنا يا مولاي .. قال المحير... انه أمر محير .. فكلاكما رجل قوي وسمعتكما باسم الله ما شاء الله جيدة وطيبه .. أريدكما ان تقتتلا أمامنا حتى الموت .. فمن عاش فهو قائد الحملة .. ومن مات دفنت جثته باحترام وتقدير ..سحب كل منهما سيفه ومولاي. خر .. وعندما تمددا سويا على البساط ونزفت دماءهما قال الخليفة العابد للخليفة غير الراشد .. لقد انتهت مهمتي يا مولاي .. ها قد مضى شهر على وجودي في هذا القصر .. ولقد رتبت لك الأوضاع كما ترغب .. أريد منك فقط ان تعفيني من مهمتي .. قال الخليفة الأصلي: لكن الوقت لم يأزف بعد .. بقي لك شهر آخر .. قال العابد .. يا مولاي .. الحكم مفسدة .. فلو أني بقيت هنا لشهر آخر فلا اضمن نفسي ان انحرف .. لذا فاني اتركها لك وقم أنت بترتيبها كما ينبغي لك كخليفة .. ولا تحد عن الطريق الذي رسمته لك .. ثم قاما من خرابا. خلف الستارة واستبدلا ملابسهما فعاد العابد عابدا والخليفة خليفة.. وظل الأمر على حسنه حتى جاء هولاكو .. فإذا بغداد خرابا .. وإذا فلسطين محتله .. وإذا أفغانستان إمارة تعج بالمارينز .. وإذا الملوك نساء والنساء ملكات.. وإذا السبع قد تحول إلى هر والنمر إلى أرنب والقواد إلى شريف.. أما ما دون ذلك فقد نبتت في الأرض سجون جديدة تتسع لكل هذا الوطن الذي يسمونه عربيا.. ولله في خلقه شئون

صبرا جواسيس الجالية، فان موعدكم القرافة..
وليد رباح
توضيح: توضيح: جواسيس الجالية، هم شلة من دهماء العرب، اختارتهم أجهزة ملاحقة المتهمين لإيداع الشرفاء من الناس السجون أيا كانت مواقعها، وعمدت إلى تعيين أولئك جواسيس على أبناء الجالية دون أجر .. وثانيا: بلغة أهل مصر .. القرافة تعني المقبرة، والكلمة مأخوذة من ( القرف) وكل ما يتخلف عن الإنسان فهو ( مقرف ) بدءا مما يخرج من الإست وانتهاء بما تلفظه المعدة .. استثناء بما يلفظ من مخلف يمكن ان يؤدي إلى وجود الإنسان على هذه الأرض .. أما ثالثا فهي من لزوم ما لا يلزم.

بعد هذه المقدمة الجهنمية .. يسعدنا أيها السادة وأيتها السيدات ان نخرم آذانكم وأذانكن بشيء من الرعونة لنتحدث عن ذوي البطون الناتئة مما يعرف بلغة أهل القرى بالكرش .. وممن يجلسون إلى الطعام كأنهم يلجون إلى مجزرة .. وممن ( تقرف ) نساؤهم من شخيرهم فكأنما ينامون على محفة للموتى .. وممن تلعنالعطنة.تنا العلى وأرضينا السفلى لسحنتهم القميئة .. ورائحتهم العطنة .. وسراويلهم النجسة.. وممن لا ينفع فيهم السباب ولا الشتائم لان أجسادهم بنيت على النتن.. وممن يتبرأ منهم أبناؤهم عندما يكبرون لأنهم أساءوا إلى وجوههم الصغيرة النظيفة .

وأنت إذا ما بحثت عن هؤلاء فانك تجدهم بيننا مثل الدود يجتمعون على قطعة من المش المجفف. يأخذون منك أخبار الناس ثم يمررونها إلى أجهزة الحكم أينما وجدت فلا تجد نفسك إلا وأنت مستلق في زنزانة مريحة تنبعث منها رائحة الجثث وأغاني الموتى وآهات المعذبين.. وإذا ما دققت في بطاقاتهم الذاتية وجدت المهنة (بلا) يدافعون عن الوطن كأنهم قطعة منه فلا تملك إلا ان ترفع رايتهم على كل الرايات . ويخطبون في الجماهير النائمة كأنما هم قطعة من جهنم فلا ترضى عن نفسك إذا لم تهتف لهم.. يقبعون على صدورنا كالموت . ولكنه الموت الحنون الذي لا يؤلم . يلجون إلى دواخلنا وبيوتنا والى خزائن ألبستنا والى أمعائنا ورؤوسنا ويمررون ذلك كله إلى أولي الأمر (منكم) وفي النهاية هم الذين يحكمون ..

موصفاتهم: السحنة قلوية تذوب مع الحقيقة مثل حليب النيدو . الجلد فيه بقع سوداء تحكي عن سوء ظنونهم . الرقبة خنزير بري مع ما يستتبع ذلك من أظلاف.. الإلية ذيل طويل ناعم الشكل لكنه يجرح المتطفلين .. بإمكانك ان تضع في (صرتهم) برميلا من النبيذ المعتق وتشرب منه هنيئا مريئا حتى تغدو مثل أبي نواس في ليالي الأعراس .. إذا ما أردت البحث عنهم فانك تجدهم في الأعراس يخدمون الناس.. وفي المآتم يرشون الجميد على المناسف .. وفي الصلاة على الميت في مقدمة الصفوف . وفي الدفن أول من يرش حفنة التراب على جثمان المتوفى . وأول من يزرع شجرة على قبره ولا ينسى مع زراعة الشجرة ان يدعو للميت بالمقبرة.لعقاب وبان يلج جهنم ويأوي إلى ركن قصي من النار كيما يزداد عذابه .. ومع كل ذلك فانه يصطف مع أهل الميت لتقبل العزاء وتقبيل من جاءوا إلى المقبرة .. هذه بعض مواصفاته الظاهرة .

أما مواصفاته الخفية ..: تكرهه زوجته حتى الموت باطنا . ولكنها ظاهرا تعشق فيه ( وسامته) لأنها تتحسس جيبه عند كل مساء.. أبدا لا يطعم أولاده من حلال.. إنها لقمة مغمسة بالدموع والموت والصراخ والنحيب.. يساعد الناس بان يعطيهم قروضا ب ( الربا ) ينام وقد أغمض عينا وفتح أخرى خشية ان يغتاله الشرفاء .. يوزع تقاريره (المخابراتية) على أكثر من جهاز لكي يضمن الضريبة. المركب ) ومع كل ذلك فانه يغش الحكومة في كل تعاملاته معها .. فهو أول من يضحك على شركات التأمين . وأول من يجعل شركته أو مؤسسته تخسر النقود لكي لا يدفع الضريبة . وأول من يعطي النصالشمس.اس بان يضربوا ( الكرديت كارد ) ثم يكتب تقريرا طويلا عريضا للجهات المختصة يخبرهم عن نية من يوقعه سوء الحظ بين براثنه .

انه رجل يلمع مثل الشمس . غني ولكنه يتظاهر بابالغنى.فقير ولكنه يتظاهر بانفسه. كذاب وصادق في الوقت نفسه .. يحفر الكوسة مع زوجته في المساء ويعود لطمرها ( أي الكوسة وليس الزوجة ) في الصباح .. يبكي في العلن وسنه يضحك بالسر .. يأخذ منك ولا يعطيك .. وأحيانا يعطيك ويأخذ منك فمدحته.حد .. يتمايل جذلا وطربا إذا ما مدحته .. ويغضب في سره إذا ما ذممته ولكنه يتشدق بديمقراطية النقد فيدعوك إلى فنجان قهوة تدفعأنت. .. يفرح إذا ما خرج احد العرب ( أوت أف بيزنس)، ويغتم عندما يفتتح إنسانا ناجحا عملا مربحا، يتمنى ان تفتح الأرض ذراعيها لتحتضن اليتامى والايامى والمعوزين والفقراء فلا يراهم أبدا . ثم ( يرقع ) خطابا أمام مسئول أمريكي فيه الكثير عن مآثر أمريكا تجاه العرب.

انه رجل يتوسط لكل أبناء الجالية إذا ما أصابتهم المحن ولفتهم المسغبة.. فان حررت مخالفة لأحدهم لأنه ( تطاول) في البناء أو وضع مغسلة في بيته دون ان يستشير البلدية فانه يتصل ب ( الانسبكتر) لكي يقدم تقريرا بذلك .. ثم يأتي فارعا دارعا إذا ما ناشدته ان يساعدك ليأخذ مني رشوة مأتين أو مائة دولار ) من تحت العباءة لكي يرشو الموظفين كما يقول .. بعض تلك النقود يضعها في جيبه والبعض الآخر في جيب من يرشوه .. أو كل النقود يضعها في جيبه والانسبكتر بريء مما ينسبه إليه .

من أصدقائه: مدير البوليس، الشريف، الكفرنر، الكونغرس مان، رئيس البلدية، كل المسئولين الأمريكيين حتى ولو كانوا من الدرجة العاشرة . ومن أعدائه كل الشرفاء ممن في الجالية ..
سيداتي وسادتي: احذروا هذا الرجل .. فانه السوس الذي ينخر عظامنا نحن أبناء الجالية دون ان يقدم تقريرا بذلك .. لان أمراضنا تعني صحة الآخرين.. ولان صحتنا تعني مرضا مقيما لهذا الجاسوس ولزبانيته أصحاب المقامات الرفيعة..
بعد كل ذلك .. نحن لسنا بحاجة إليبالقانون.بناء الجالية ملتزمون جمبالقانون.ون .. ولا نمارس الإرهاب .حتى ولا أكل الكباب.. فلا حاجة لنا بأولئك .. فاحذروهم .. احذروهم ..
walidrabah9@gmail.com
www.arabvoice.com

وليد أبو حوسة - فلسطين
عندما فكرت في كتابة هذا المقال عن كل من الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي ديكارت، صاحب المقولة الشهيرة: "أنا أفكر إذا أنا موجود" وداروين عالم الحيوان الإنجليزي صاحب نظرية "النشوء والارتقاء، قلت لنفسي: لماذا لا أقوم بعملية استطلاع رأي ولو محدودة لعينة "عشوائية" ممن يحيطون بي "جغرافيا" على الأقل، لمعرفة ما يعرفونه عن "ديكارت" ومقولته و"داروين" ونظريته ؟

بالفعل قررت ونزلت إلى الشارع . وكانت أول محطة لي عند محل "الفول والفلافل" القريب من بيتي، والذي نفى المشرف عليه نفيا قاطعا معرفته بأي من المذكورين ( ربما اعتقادا منه بأن هناك شيء خطير يتعلق بهما ويجري البحث عنهما ) !! وعند مخبز "التميس" المجاور أجاب البائع قائلا: فيه "عادي" و"بسكوت" و"أبو سمن" و"أبو جبن" . أنت حاجة.غى "بابا" ؟ فقلت له: لا .. ولا حاجة . بس ما ألاقي عندك "ديكارت" بالأناناس أو داروين بالموز ؟ فقال المسكين: يمكن "تلاقي" عند محل "الشاورما" والعصير "اللي جنبنا" !!

في المطعم "الموصى به" وجدت زبائن من كل الأجناس والأعمار والثقافات . أول الأمر لفت انتباهي مناديل ورقية مطبوع عليها اسم المحل بالبنط العريض وتحته عبارة: "رؤية عصرية في عالم الشاورما ومفهوم جديد في دنيا العصيرات . استبشرت خيرا وقلت في نفسي: يبدو أننا ارتقينا برؤانا ومفاهيمنا لنستطيع مجاراة الآخرين في منظومة عصر العولمة والانفتاح من خلال دنيا المانجو وعالم الفراولة والتفاح .

بعد أن قمت بسؤال عدد من الزبائن بطريقة مهذبة لا تدعو للريبة أو "الشك،" أجاب معظمهم بعدم معرفتهم بالمذكورين . فسألت أحد المشرفين بالمحل: ألا أجد عندكم عصير "ديكارت" بالجوافة أو شاورما "داروين" باللحم ؟ فأجاب: عندنا كل أنواع الشاورما والعصائر الطازجة من عصير الأناناس حتى عصير "القلقاس". ولكني لم أسمع من قبل بشاور"القلقاس". أو حتى عصير "ديكارت" !! فقلت له ضاحكا: "خلينا" في "القلقاس" .. أحسن .

وحينما دخلت محل "البقالة" المجاور للمطعم وجدت عنده موظف أستوديو التصوير الملاصق. سألتهما عن "داروين"" و "ديكارت" . فقال صاحب "البقالة": الآن يوجد "كارت سوا" و"كارت زين" .. وبعد "نص" ساعة يمكن "يجينا" كارت "موبايلي". أما المصوّر فأجاب: عندنا "كارت" عادي "مطفي" وكارت "بوستال" لمّاع .. أنت إيش يبغى "ماي فريند" ؟!
ويبدو أن أحد شباب ما دون العشرين كان يتابع الحديث فأبى إلا أن يدلو بدلاه في بئر السؤال "الديكارتي" العميق، حيث قال: لم أسمع بداروين، ولكني سمعت أن "ديكارت" انتقل مؤخرا من نادي "تشيلسي" الإنجليزي لنادي "برشلونة" الأسباني مقابل ثلاثين مليون دولار !! فقلت له ولكني سمعت مؤخرا آراء متضاربة بخصوص هذا الموضوع "الذي يهمنا جميعا" آخرها كان تصريح له في وسائل الإعلام ينفي فيه هذا الخبر نفيا قاطعا و"يشكك" في "وجوده" هذا الموسم في ملاعب إخواننا الأسبان . وقال أنه يفضّل خلال الموسم القادم اللعب لنادي "باريس سان جيرمان" الفرنسي . رغم أنه يدرس حاليا مع وكيل أعماله بشكلممكن.عرضان للعب بنادي "جوفنتوس" الإيطالي، ونادي "جالاطا سراي" التركي . فأجاب الشاب وهو "يمط شفتيه" باستغراب: ممكن .. فكل شيء جائز هذه الأيام !! ربما لم يرغب "الشاب" في مجادلة "كهالأوان.ر أصيب بالمشيب قبل الأوان .. ربما .. الله أعلم) !!

ورغم حزني لنتيجة الاستطلاع "المحدود"، إلا أنني سررت بأننا ما زلنا أناس طيبين ولا نفكر إلا في "لقمة العيش" بالحلال وبدون جدل وفلسفة. وبالنسبة لأخونا الشاب فسوف يأتي اليوم الذي يعرف فيه أن الدنيا ليست كلها "كرة قدم"، بل إنها تحفل بالكثير من الأمور الأكثر جدية وأهمية وخصوصا في مجتمعاتنا العربية .

"أنا أفكر .. إذا أنا موجود ": مقولة شهيرة أطلقها "ديكارت" في القرن السابع عشر الميلادي وما زالت تدرّس في معاهد العلم حتى يومنا هذا . استطاع "ديكارت" إثبات "وجوده"من خلال "الشك" في هذا الوجود .. فطالما أنه "يشك" في وجوده فهو "موجود" !! ما علينا. ومع تفهمي لنظريات بعض بجراح.ة، إلا إنني أعتقد أن "ديكارت" كان يتحدث بلغة الزمان الذي عاشه . ولم يسمع وقتها "طبعا" لا هو ولا غيره من مفكري عصره، بما يحدث في "عالم اليوم" الذي نعيش أيامه الجميلة . وخاصة في شرقنا المثخن بجراح .. لا يعلم إلا الله متى ستندمل وتزول آثارها .

فلو كان موجودا بيننا الآن لعلم بدون "شك" أفكر. ولته الشهيرة قد أكل عليها اأفكر.شرب وأنه موجود.يثها "عربيا" لتصبح: أنا أفكر.. إذا أنا موجود . ولكن إما في أحد القبور المنسية أو إحدى الزنازين المظلمة في هذا السجن أو ذاكالأيام).عنابر مستشفى الأمراض العقلية (هالعمل.ستطاع أن يجد له مكانا فيالأيام).يام) . أو ربما جالس في بيته "عاطل" عن العمل . أو كان يمكنه القول: أنا أفكرأو.إذا فأنا "مفقود" أو "مطرود" أو... أو ... أو .. إلى آخر القائمة إياها !!
ولماذا لا يأخذ بنصيحتي المتواضعة ويقول: أنا أشك.. إذا فأناالحجم. ؟! أليست تلك المقولة أكثر أمانا واستقرارا في أيامنا "النحاسية" هذه ؟ خاصة وأن "الدبوس" لن يلتفت إليه أحد في "كومة قش" أحداث تغطي العالم بأكمله . فيحجب عن الأنظار حتى حين . وربما يكبر بمرور الأيام وتغيّر الظروف فيصبح "مسمارا" كبير الحجم .. ثقيل الوزن ذو هيبة وشأن .. أو على الأقل "ريشة" رئيسية مهمة في "مثقاب" كهربائي ضخم يستطيع ثقب أعتى الجدران وأصلبها ؟

فلتنم "مسيو" ديكارت قرير العين داخل "تابوتك العاجي" في جوف قبرك الباريسي، الذي لا "يشك" أحد أنه "موجود" في مكان ما تحت الأرض . الزمان غير الزمان والمكان غير المكان والظروف تغيرت . والعالم أصبح على حافة الهاوية يا عزيزي !! ولتتركنا في حالنا "الله لا يسيئك" .. "مش" ناقصين فلسفة ووجع رأس.

أما بالنسب لمستر "داروين" عالم "الحيوان" الإنجليزي المشهور بنظرية وجل.وء والارتقاء" .. فأقول له: لن تنفعك نظريتك ولن يشفع لك تاريخك الحافل بالمنجزات، التي لا يعلم سرها إلا المولى عز وجل . ولن تنفعك "قرودك" لإثبات ما كنت تريد إثباته. فالإنسان هو الإنسان .. خلقه الله في أحسن تقويم .. خلق أبانا آدم عليه السلام العصور.ه الآدمية التي نحن عليها الآن قد يكون هناك تغيّر في حجالعصور.نتيجة عوامل الزمن على مر العصور . ولكن الإنسان هو نفسه بكامل هيئته وبكل تفاصيله .. منذ بدء الخلق وحتى آخر مولود نزل هذه اللحظة .

فلا تحاول اللعب على أوتار منحنية "موزية" الش"الحقيقة".قص على أنغامها سوى أصحاب الشطحات الفلسفية إياها الذين يقبعون داخل "زنازين" أبراجهم العاجية فوق الجبال الجليدية .. التي ستنهار بإذن الله مع فجر أول يوم في زمن "الحقيقة" .. التي نسعى جميعا للوصإليها. .. بعيدا ع"قرودك". .

ولكن مهلا .. وإنصافا للحق أعترف بأن بعض قرودك موجودون الآن بالفعل على الخارطة العالمية ويمارسون هوايتهم المعهودة لتغيير المفاهيم وقلب الموازين التي وضعها الله لتصبح ناموسه في الكون . ليس المهم من هم "أولئك القرود"، أو أين يوجدون على خارطة الغابة "العولمية"، ولكن المهم في من يصدّقهم ويعجب باستعراضاتهم "البهبالطبع.ويصفق لها وهي تأكل الفول السوداني والموز "بعد تقشيرهما" !! ولا يحلو لها ممارسة هوايتها في التنقل بهمة ونشاط إلا بين أشجار أدغال "عالم ثالث" مليئة بثمار "جوز الهند" و"الأناناس" والموز بالطبع .. لأهداف لا يعلمها (بعد الله جل وعلا) إلالعقلاء. .. العالمون ببواطن الأمور .
وليد أبو حوسة / كاتب فلسطيني

نساء البلاستيك والأصباغ

بقلم: وليد رباح


ليس هذا هجوما على (الستات) من رجل مل النظر إلى وجوه النساء.. ولكن الفرق بين سيدة الزمن السالف والحالي كالفرق بين الزهرة الطبيعية والأخرى الصناعية. فأيهما الأحسن؟

بين يدي صورتين..أحدهما لجدتي يوم كانت صبية فيها من غبش التصوير ما فيها عندما كان المصور يدخل رأسه في كيس أسود اللون ولا أدري ما الذي كان يفعله فيه لكي يخرج لنا صورة قرد بدل الإنسان.. والأخرى لأمي يوم كان فن التصوير على شيء من التقدم.

ورغم أن الصورة الأولى لم تستخدم فيها تكنولوجية التصوير الحالي فقد كانت جدتي جميلة.. عيناها تمتد عريضة مثل عيني بقرة هولندية مكحلة.. وقد استخدمت لتكحيلهما (مرودا) ربما كانت عصاه مثل عصا سيدنا موسى عريضة وثخينة وذات حواف جارحة.. وربما آذت جدتي نفسها أو عينها عندما تكحلت بذلك المرود، ومع كل ذلك فإن خدودها موردة مثل التفاح، وفمها الضيق مثل زهرة برية لم تتفتح بعد، وحاجباها..آه من حاجبيها..إنهما مثل منجل الحصاد مرسومة على ورقة من البردي الفرعوني الجميل.. ويمتد عنقها عبر (الشال) الأبيض الذي تعتمره كأنما هي م، ورغمادم من السماء لكي يمسح جراح الآخرين.
أما الصورة الأخرى.. تلك التي أمي، فإنها تزخر بمزيج من الألوان مثل قوس قزح،ورغم أنها كانت قد جاوزت الأربعين عندما تصورت إلا أنها من الواضح قد استخدمت كل الأدوات التي تجعل المراهقين يغرسون أظافرهم في حديد درابزين البيت عندما ينظرون إلى الصورة.

(فالريميل) الذي استخدمته أمي لتزيين عينيها كأنما صنع خصيصا لها في باريس، وعلبة البودرة الحمراء التي استخدمتها قد جعلت خدودها مثل تفاح الجبل ولكنه دون طعم... ورموشها... يا عيني على رموشها .. كانت واقفة مثل النخيل في صحراء قاحلة.. فإذا ما لامستها حقيقة خزت يدك كأنما هي مجموعة من المسامير مرشومة على جفنيها، ورغم أن عينيها ضيقة مثل (الصراصير في اللبن) فإنهما في الصورة قد أصبحتا مثل فناجين العسل.. واسعة وعريضة وذات حواف مخطوطة (بالبيكار) أما شعرها فينطبق عليه ما قاله المرحوم نزار قباني ووصفه بأنه مجنون ينفرد على كتفها مثل غجر بلادنا أيام الأعراس في ليالي الصيف.
وبين الجدة وابنتها .. كانت هناك المشكلة، فقد كان الناس يتزوجون (بطيخة) لا يدرون إن كانت قرعة أو حمراء.. ولكن الزواج يدوم طيلة العمر، أما في هذه الأيام فإن الناس يتزوجون (على السكين) وبعد زواج بالمجهر، ولكن الزواج ينتهي بعد بضعة أشهر أو سنوات على أبعد تقدير..

ورغم أن الناس كانوا يتبعون حيلا يوقعون بها بعض البلهاء..كان يتزوج الرجل فتاة جميلة رآها وهي تملأ جرتها من (عين القرية) ثم يكتشف ليلة الدخلة بأنها قد تبدلت بأخرى، ربما كانت بعين واحدة أو مقطوعة الرجل أو حتى ضريرة أو تكتنفها الأمراض أو مقعدة أو غير ذلك.. إلا أن الزوج كان يرضي بنصيبه فيمضي طيلة عمره وهو يخدم زوجته الجديدة ولا يفكر في طلاقها لأن نصيبه قد قاده إليها.

أما في هذه الأيام، فقد يكتشف الرجل بعد الزواج وتحديدا في الأسبوع الأول أن الفتاة التي اختارها قلبه والتي حفيت قدماه وهو يحاول إقناعها بالزواج منه قد أفاقت من نومها دون أصباغ وظهر (القرد)على حقيقته فإنه ينسرب إلى أول قاض شرعي في طريقه لكي يقول له (امرأتي طالق بالثلاثة)

ليس ذلك فحسب.. بل إن أخلاق المرأة السالفة في بيتها تختلف اختلافا كليا عن أخلاق المرأة الحالية.. ليس بفعل التطور أو تقدم الزمن، ولكن بفعل بساطة الأولى وعنجهية الثانية.

وربما كان السبب الرئيسي في ذلك أن الأولى لم تستطع أن تغطي عيوبها مثلما تغطيها المرأة الحالية.. فقد كانت الأولى متواضعة إلى درجة الهبل، أما في هذا الزمن فإن المرأة (هبلة) إلى درجة التواضع.
وقد كانت الأولى صادقة في كل ما تقوله وما تفعله.. بسيطة بساطة شرب الماء..أما الثانية فإنها تكذب حتى تصدق كذبتها.

خذ مثلا: المرأة في ذلك الزمان كانت تدرك أنها جميلة .. ومع كل ذلك فإن هذا الجمال كان جمالا متواضعا تعرف أن الله منحه لها لكي تعطيه لزوجها فقط.. أما في الزمن الحالي، فإن الله إن منحها مسحة من الجمال فإنها تذرع الشوارع جيئة وذهابا لكي يشاهده الناس ويغدو منظرا لكل من هب ودب.. لالله. فحسب ..فالأولى كانت تدرك أنها جميلة أو بشعة، تعرف ذلك جيدا فترضى بما قسمه الله، أما الثانية فإنها إن كانت بشعة فإنها تظن أنها أجمل ما خلق الله ..إذ يكفي أن تكون جميلة في نظر نفسها، وقد يتعوذ زوجها من الشيطان عندما تنهض من نومها دون أصباغ، فعينيها ضيقة مثل بيوت النمل.. ولكنها تظن نفسها أنها فريدة عصرها وقائدة عسكرها.. ووجهها مسطح مثل مسطرة عليها أرقام حسابية، ولكنها تظن أن هذا الوجد فريد في شكله ونوعه وتخلق منه أسطورة بين صويحباتها.. وخدودها بارزة مثل المسامير في أكفان الموتى ولكنها تظن أن تلك الخدود مثل الأجاص الفلاحي المروي على طريقة مطر السماء، وليس على طريقة التنقيط الحديثة.. وجسدها (مدعدر) هنا ومسحوب هناك متقع.يجارة اللف العربية) ولكنها تقف أمام المرآة ساعات طويلة لكي تتغزل بجسمها الملفوف مثل لفات الخص الطرية المتناسقة ..فإن قلت لها غير ذلك فالمصيبة قد تقع .. وقد تطلب منك الطلاق فحاذر!!

وقد تلجأ امرأة العصر الحديث إلى محاولة تغييب عيوبها كأن تلبس مشدا محزوقا عليها وتحشر نفسها فيه فتغدو مثل (الروبوت المتنقل) أما سيدتنا القديمة فقد اختارت أن تستنشق الهواء العليل وتأكل الطعام الطبيعي الذي لا تخالطه الكيمياء فغدا جسمها ممشوقا مثل مطرق الرمان الطري.

أما في العمل فحدث ولا حرج.. فلا ينكر أحد أن المرأة الأولى كانت عاملة في حقلها أو حتى (حاكورة) بيتها.. وقد تتسخ ملابسها وقدميها (لأنها كانت تسير في معظم الأحيان دون حذاء) ولكن المساء عندها شيء آخر.. فقد كان الزوج يأتي لكي يرى امرأة مختلفة عما شاهده في الحقل.. نظيفة الثياب والوجه والخلق.

أما في عصر ( الحب غير العذري) هذا فإن المرأة ترسم جسمها في العمل على (البيكار) وتتحدث إليك بكل إتيكيت الكلام الجميل، ولكنها في بيتها شيء آخر، إذ ما أن تأتي إلى فراشها في الليل فإن رائحة الكلوروكس وأدوات التنظيف تجعلك تقفز من فراشك إلى (الكاوتش) بحجة أنك سوف ترى برامج التلفزيون وفي الحقيقة أنك تهرب من هذه الرائحة.

وقد كانت الأولى ترضى بالقليل القليل إن كان زوجها معسرا، ففستان واحد في السنة ربما يكفيها شر الموضات التي تقتلنا في هذه الأيام، وقد يأتي لها الزوج بفستان آخر على عيد الأضحى أو الفطر أو الفصح أو أي عيد آخر، فترضى وتبتسم وتشكره ويكمن في قلبها دفق من الحنان والحب الذي لا يتصوره إنسان.. أما امرأة اليوم فإنها تكدس الفساتين والذهب والخواتم والصباغ والدولارات والليرات، ولكنها في النهاية تلقي بكل فساتينها وأحذيتها في أكياس الزبالة لأنها لم تعد تجاري الموضة، فقد تغير كل شيء في هذا العام عن العام الماضي ولم يعد ملائما لها.

وقد نتحدث عن الفشخرة الكاذبة.. فالمرأة بالأمس كانت لا تعرف معنى كلمة (الفشخرة) إذ كان الناس يعرفون إن كان زوجها غنيا أو فقيرا منذ اللحظة الأولى التي ينظرون فيها إلى وجهها، فقد كان الوجه مرآة صادقة لما في داخلها. أما اليوم، فلم تعد تعرف إن كان الزوج غنيا أو فقيرا، بسيطا أو متعجرفا، وذلك بفعل ما تقوم به زوجته من خراب لبيته لشراء ما يجاري جاراتها أو من تعرفهن من النساء.

فإن اشترت أم العبد فستانا بخمسمائة دولار مثلا، فإن صبحية يجب أن تشتري نفس الفستان بنفس المبلغ، فجارتها ليست أحسن منها، وحتى وإن كان زوجها لامثلها.الدولارات المطلوبة فإنها على استعداد لأن تجبره على الاستدانة حتى تبقى في نظر جارتها غنية وتلبس احدث ما ابتكرته قريحة (أنطونيو) مصمم الأزياء في دولة المالديف.

وقس على ذلك ما يمكن أن ينطبق عليه الوضع، فإن اشترت إحداهن تلفزيونا جديدا أكبر من تلفزيون جارتها فهي تريد مثله، وإن عطست جارتها فيجب أن تعطس مثلها .. وإن اشترت شيئا حتى وإن كان كماليا لا يستفيد منه البيت فيجب أن تشترمثله. .. وكم من النساء يملأن أكياس القمامة بأشياء دفعت أثمانها آلافا من الدولارات يوم كانت محتاجة لتلك الأشياء ثم استغنت عنها لأنها لا تريد أن تكون (متخلفة) وتستخدم تكنولوجيا قديمة كما تقول .

وأخيرا.. هل امرأة اليوم هي حفيدة امرأة الأمس.. أغلب الظن أن ذلك مشكوكصحيح.فمن حصحيح.ية التطور والخلق فهو صحيح . أما من الناحية السيكولوجية فذلك أمر آخر، إلا ما ندر ولكل قاعدة شواذ.
لقد كانت المرأة الأولى جدتنا، أما المرأة الحديثة فهي زوجتنا وأختنا وربما كانت أمنا، ولكن الذي يظل قائما ولا مجال للتغيير فيه، أن المرأة الحديثة لا تحتمل النقد ولا تحتمل قولة الحق، فبعد كل هذه الطائفة من المجانسة والمقارنة، فإننا نعرف أننا سوف نتلقى العديد من المكالمات الهاتفية من نساء العرب في هذه الناحية من العالم.. بعضهن يشتم، وبعضهن يسخر.. والبعض الآخر ممن بلغ بهن السن حدا أصبحن فيه كاملات العقل.. سوف يقلن لنا بارك الله فيكم.. فقد (فششتم فشتنا) وقلتم ما لم نستطع قوله ( لكناتنا ) اللواتي استولين على أبنائنا ويعاملوهم كما تقولون في مقالتكم هذه.

ويقينا أننا مع العجائز في آرائهن، فهن الخير والبركة.. وهن اللواتي فتحن لنا الطريق إلى هذه الحياة بخيرها وشرها.. حلوها ومرها.. وهن اللواتي تحملن من عبء الحياة ما لم تحتمله المرأة الحديثة التي عاشت وتعيش على الحليب والبسكويت (السيريال) إضافة إلى الهامبورغر والهوت دوغ والمشاوي المحروقة حتى لا تتخن أو يختل جسدها. ولله في خلقه شئون ..
Walidrabah9@gmail.com
www.arabvoice.com

نحن والكائنات اللا مرئية وعقلنة اللا معقول..

بقلم: فوزي منصور
يعتقد المتدينون في جميع الأديان بوجود كائنات لامرئية تشاركنا الحياة على الأرض.وتنقسم تلك الكائنات إلي ثلاثة أجناس هي:
أولا: الملائكة: وهي أحادية النوع لا تتزاوج أو تتناسل وتتكاثر. وهي أيضا تحيا دون حاجة إلى طعام أو شراب. وتعتبر أجساما نورانية خلقت من النور الإلهي واعتبرتها الديانات القديمة ذات طبيعة إلهية ومكلفة من قبل الإله بوظائف ومهام يتم بها تنفيذ المشيئة الإلهية مثل الحكمة
والطب والخصوبة وإرسال الريح والسحب والبرق والرعد وإسقاط المطر وغير ذلك .ولذا نجد في تراثهم أحاديث عن آلهة الحكمة أو الجمال أو الخصوبة….ومنهم من أعتبر النجوم والكواكب ملائكة واهتم برصد تحركاتها وكان ذلك سببا في ظهور علم الفلك وعلم التنجيم في قديم الزمن. والاعتقاد السائد حاليا في مختلف الأديان حول الملائكة هو أنهم لا يتعاملون مع الإنسان، أو يتدخلون في حياته، أو يشعرونه بوجودهم، ولا ينفعونه أو يضرونه، وإن كان لهم مهام تتعلق به . فهم الذين يميتونه وينزعون روحه عن جسده، وهم أيضا الذين يراقبون فعاله ويرصدون الحسن والسيئ منها ليتم حسابه على كل منهما في عالم آخر. واحتفظ التراث الديني ببضعة أسماء آرامية للملائكة مثل جبرائيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل ولعل أهمها هو جبرائيل باعتباره الملاك المكلف بنقل الرسالات الإلهية إلى الأنبياء والرسل .
ثانيا: الجن: وهي ثنائية النوع: تتزاوج وتتناسل وتتكاثر، وهي أيضا تأكل وتشرب، ولها طعامها وشرابها، ولا تترك فضلات عن طعامها وشرابها حيث تتحول ربما إلى طاقة أو غازات بسبب طبيعتها النارية حيث خلقت من النار. وبالتالي يمكن القول بأنها ذات أجسام حرارية غير مرئية. هذه الكائنات لا تتعامل مع البشر على نحو مباشر إلا في ظروف خاصة وشاذة. والحالة الوحيدة المؤكدة والمشهودة هي التواصل من خلال الطقوس السحرية. وتوجد حالات يشتبه بأن لها علاقة بالجن مثل حالات الصرع، وكما يقال بأن لكل إنسان قرين أو قرينة من الجن يلازمه في حياته دون أن يشعر به . والشياطين نوع من الجن آل على نفسه أن يغوى البشر ويغريهم بالمفاسد ويدفعهم إلى ارتكاب الآثام والشرور ولكن لا سلطان له عليهم في ذلك، أي أنه لا يستطيع إجبارهم على فعل الشر وإنما يقتصر دوره على تزيينه لهم وتحفيزهم عليه. وبسبب ثبوت إمكانية التواصل مع الجن امتلأت بذكرهم الأساطير والخرافات حتى جعلت من الممكن أن يتزاوج الأنس مع الجن أو يتبادلان العشق والغرام، كما ورد فيها إمكانية أن تظهر الجن والشياطين في صور بشرية أو حيوانية أو صور لكائنات تجمع بين صفات الحيوانات والبشر. واعتبر أن أكثر الصور التي تتجسد فيها الشياطين بحيث يراها الإنسان بعينه في صورة الأفعى. ومن الناس من يقول ، أن الجن ظهر له في صورة آدمية للحظات أو أنه لمسه أو تحسسه فعلا وهو في حالة اليقظة وأن ذلك قد تم في الضوء أو في الظلام. ورغم صدق القائل بذلك، فانه لم يحدث بالتأكيد وإنما الذي يمكن أن يكون قد حدث فعلا هو أن جنيا أو جنية استولي عليه للحظات نومه فيها وصور له ما رأى علي نحو ما يحدث له في الأحلام ثم أعاده إلى اليقظة مرة أخرى التي كان عليها دون أن يتنبه إلى حقيقة ما حدث. ومن غير المستبعد أيضا إمكانية أن يستولي جني على إنسان بعض الوقت فيحركه كما شاء أو ينطق بلسانه على نحو ما يحدث فعلا في التنويم المغناطيسي ويمكن أن تكون هذه الحالة أيضا خلف الألعاب السحرية التي تتم أمام جمهور المشاهدين. وفي التراث النبوي الإسلامي حديث عن ظهور جبريل للنبي وهو مع بعض أصحابه في صورة شخص معروف وسؤاله للنبي محمد عن الإسلام والإيمان والإحسان .ويمكن تفسير ذلك بأن الملاك جبريل قد استولي علي هذا الشخص بالفعل، وحركه من مكانه، وتحدث بلسانه، ثم أعاده إلى حيث أتى به، دون أن يدرى هذا الشخص شيئا مما حدث له.
ثالثا: أرواح الموتى: هي أيضا كائنات لا مرئية لا تأكل ولا تشرب ولا تتناسل، وهي في أغلب المعتقدات تعيش في عالم خاص بها ربما يوجد بين السماء والأرض أطلق عليه في الدين الإسلامي اسم: عالم البرزخ، وهي فيه في حالة انتظار ليوم تحاسب فيه على أعمالها في الحياة الدنيا. وقد ادعى بعض الناس إمكانية استدعاء أرواح الموتى من ذلك العالم والتحدث معهم ثم إطلاقهم ليعودوا إليه ثانية. ورغم أنه لم يثبت على أي نحو وجود أي علاقة بين أرواح الموتى وعالم الأحياء، إلا أننا نجد معتقدات لدى شعوب أفريقية وآسيوية تعطي أهمية بالغة لأرواح الآباء والأجداد وتقيم طقوسا خاصة أو تقدم قرابين لها لجلب رضاها وبركتها وتفادي سخطها . ومازالت قبائل في أفريقيا الاستوائية، الوسطي والغربية،تدين بالديانة الأرواحية ( نسبة إلى الأرواح) . وإذا كانت أرواح الموتى تعد في المعتقدات الدينية كائنات حية لامرئية مثل الملائكة والجن، إلا أنه لا يوجد تحديد لطبيعتها وجنسها وهل هي من نور مثل الملائكة أو من نار مثل الجن والشياطين أم من شيء آخر وقد سئل النبي محمدا عنها فأجاب القرآن الكريم عنه بأن:"الروح من أمر ربي". ومع ذلك يمكن القول اجتهادا باحتمال أن تكون مزيجا من النار والنور .يعتمد هذا الاجتهاد على أن الإنسان خلق – كما جاء في الكتب المقدسة للديانات التوحيدية – من طين مسنون، أي محمي عليه بالنار مثل الفخار والخزف وأن الله نفخ فيه من روحه فد بت فيه الحياة . إذن هناك مادة الطين بعناصرها الفلزية (المعدنية) وهناك النار وهناك أيضا النور الإلهي في كينونة الإنسان الحي. وعندما يموت الإنسان فانه يترك جسدا باردا فارقته الحرارة (النار) والحياة (النور) فتكون بذلك روح الإنسان أو نفسه مكونة من العنصرين المفارقين له بعد الموت وهما النور والنار.
البعث والنشأة الثانية:
كان المصريون القدماء يؤمنون بعودة الروح إلي الجسد يوم البعث توطئة لمحاسبتها في العالم الآخر . وكان تحنيطهم لأجساد موتاهم عملية الغرض منها تسهيل هذه العودة دون كثير من المشقة أو الألم للروح ناتجة عن جمع مكونات رفاته المشتتة في التراب. وكانوا يخزنون طعاما في المقابر لكي يجد الميت بعد عودة الحياة إليه ما يأكله ويقويه على مواجهة حسابه باعتبار أن ذلك أفضل له من أن تتم محاسبته وهو منهك من الجوع والعطش.
ولا يوجد خلاف في المعتقدات الدينية التي تقر بالبعث علي أن الإنسان سيحاسب بعد بعثه عن أفعاله في الحياة الدنيا. إلا أنه يوجد خلاف بين هذه المعتقدات وأحيانا بداخلها حول أمرين اثنين:
أولهما: هل البعث يتم بالروح والجسد أم بالروح فقط ؟.
ثانيهما: هل النعيم والجحيم حياة مادية أم حلمية تصورية ؟.
وكثيرا ما يعزي غير المؤمنين عدم قبولهم للمعتقدات الدينية أو اعترافهم بها إلي أن ما ورد فيها عن البعث والنشور والحساب أمور لا يستسيغها العقل.
بالنسبة للسؤالين سالفي الذكر سنجد أن الذين يتمسكون بظاهر النصوص، وهم الغالبية، ينحازون إلى الاحتمال الأول في كل من السؤالين، أما الذين لا يجدون حرجا في تأويل النص الديني بما تحتمله اللغة من معان للفظ فإنهم لا يرفضون الاحتمال الأول ولكنهم يضعون الاحتمال الثاني أيضا في الاعتبار، وعلي قدم المساواة مع الأول، وعلى أساس أن
الاحتمال الثاني يعد الأقرب إلي تقبل العقل البشري له، وأن الله وحده هو الأعلم بالأصوب منهما.
عقلنة اللامعقول:
ولكن هل يمكن تحويل ما يعتبرونه لامعقولا إلي معقول، أو بصيغة أخرى: عقلنة اللامعقول؟.
من الحقائق العلمية الحديثة (والقول بأنها علمية يعني ضمنا أنها مقبولة عقليا) أنه مثلما كان بالإمكان تحويل المادة إلى طاقة دائما، فإنه بالإمكان أيضا تحويل الطاقة إلي مادة في ظروف وتحت شروط خاصة . وفي هذه الحالة فإنه بقدرة الله سبحانه وتعالي يمكن جمع رفات الإنسان المادية وتحويلها إلي طاقة وإعادة دمج روحه وجسده في كيان جديد هي النشأة الثانية له المختلفة عن الأولى في طبيعتها الجديدة التي تشبه إلى حد ما طبيعة الملائكة والجن . وطالما سبق الإقرار بوجود الملائكة والجن وأرواح الموتى ككائنات حية أو موجودة لامادية ولا مرئية لنا فما الذي يمنع من إعادة خلق البشر في صورة تعد هي الأخرى من غير المرئيات. هنا يكون القول بالبعث جسدا وروحا قولا صحيحا ولكنه جسد جديد لا تراه العين البشرية الحالية لو قدر لها أن تنظر إليه، ولو أنها فرضية مستحيلة، ولكن المبعوثون سيروا بعضهم البعض، كما يرون أيضا الملائكة والجن وكل ما كان لهم في حياتهم الدنيا غير مرئي بعيونهم المادية أو الفسيولوجية السابقة.
هذا بالنسبة للسؤال الأول، أما بالنسبة للسؤال الثاني فإنه مما يقبله العقل تماما قياس الحياة في النعيم والجحيم بما يحدث في الحياة الدنيا، والذي ربما كانت حكمة حدوثه في الحياة الدنيا هو تقريب ما تعد به الأديان إلي عقول الناس، وأعني بذلك ظاهرة الأحلام التي حار في أمرها الإنسان من قديم الزمن ولا يدري حتى الآن كيف تحدث ولم تحدث ويتخبط في تفسيرها بتكهنات تفتقر إلي المصداقية ولا تسلم من النقد والنقض مهما حاول أصحابها إلباسها ثوبا علميا. في الحلم يمكن أن يرى الإنسان نفسه في جنة تجري من تحتها الأنهار، وفيها أشجار تتدلي منها الثمار، وأنه يأكل فيها كل ما تشتهيه نفسه. ويمكن أيضا أن يجد نفسه يضاجع امرأة يعرفها أو لم يسبق له رؤيتها، يمتعها ويتمتع بها ولكأنها حليلته أو معشوقته، ويبلغ معها ذروة النشوة، بينما لا وجود لها في الواقع، وهو مع ذلك لا يدري عما إذا كان ما يحدث له أو معه حقيقة أم منام. بالمقابل يمكن أن يرى النائم مناما مزعجا يصحو منه وهو يرتعد فرقا ورعبا وقد جف حلقه وخارت قواه ولا يكاد يصدق في الوهلة الأولي أنه كان تحت وطأة كابوس مزعج. ويمكن قياسا علي ذلك أن يرى نفسه في الجحيم كما وصفته الأديان وأنه يتعذب فعلا عذابا لا يفترق عن العذاب الحقيقي في شيء.
إذن يمكن لمن استحق عند الله حياة النعيم أن يعيش هذا النعيم في هذه الصورة الحلمية الأبدية ودون أن يعد هذا الاحتمال المقبول عقليا فيه أي انتقاص من شأن جنة النعيم التي وعدت بها الأديان الصالحين من بني الإنسان. ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لمن يصالون الجحيم
هنا لا يمكن التذرع بعدم عقلانية ما جاء في المعتقدات الدينية حول البعث والحساب للامتناع عن الإيمان والتصديق بها.
ولكن ..ما أهمية هذا كله ؟
هل هي محاولة لتديين غير المتدينين.؟ .لا أنفي هذا الاحتمال، ولكن ليس هذا هو كل ما في الأمر.. إن هذا النعيم المقيم الموعود به الإنسان الطيب أو الخير بعد الموت، يمكن للإنسان الخير أن يعيشه في الدنيا والآخرة معا . بل أزعم هنا بأن له كل الحق في ذلك . بل أن تمكين كل إنسان علي وجه الأرض من التمتع بهذا النعيم فيها هو المعيار الوحيد لمقياس مدى خيرية سكان الأرض. أما حرمان معظم الناس منه أو محاولة احتكار أقلية له بدعوى ندرة الموارد أو أية دعاوي أخري فانه يعد دليلا علي انتشار الشر في العالم.
إن خيرية الإنسان تتطلب منه أن يعيش وأن يترك غيره يعيش مثله . ولكن الذي يحدث في العالم حاليا غير ذلك. في كل مكان نجد الفقر والتشرد والظلم وانتهاك الحرمات والقتل والتدمير والفساد . إن الإنسان، وبهذه الصفة وحدها بصرف النظر عن جنسه ولونه ودينه، يحق له أن يعيش على هذه الأرض حياة كريمة آمنة، لا يخالطها ظلم أو قهر أو قمع أو إرهاب أو طغيان أو حرمان، ميسر فيها له التمتع بما أحله الله له من طيبات . هذه هي حقوق الإنسان التي يجب عليه احترامها وحمايتها والمحافظة عليها والنضال من أجلها ضد كل من يحاول اغتصابها أو انتهاكها.
فوزي منصور

تبا لكم جميعا ..

بقلم: تحسين يحيى أبو عاصي
لا أعتقد أن أرحام النساء قد عقمت من إنجاب الرجال، حتى لو كان المناخ العام مثقلا بالأوجاع وبالهموم ولا يخدم الهوية ولا الكرامة، ويضغط في كل اتجاه من أجل تحقيق مصالح العدو . فلقد وصلنا إلى وضع تمكن العدو الإسرائيلي من أن ينجح في كل شيء وعلى كل الأصعدة والمستويات، ونحن الفلسطينيون والعرب والمسلمون نفشل في كل شيء على الإطلاق، والأمثلة على نجاحات العدو وعلى إخفاقاتنا كثيرة جدا .

لقد فشل مؤتمر فيينا للجاليات الفلسطينية، ومنا من نصح سويسرا بعدم إقامة مؤتمرات قادمة للجالية الفلسطينية، كما فشل الفلسطينيون في أوروبا، بجميع الأجسام التي أنشئت هناك من أجل خدمة قضيتهم .
وفشلت كل اللقاءات بين حركتي فتح وحماس من أجل تحقيق المصالحة، كما فشلت كل الجهود التي تبذل من اجل مصالحة حركة فتح مع حركة فتح، لتثبت تلك الجهود من جديد فشل تجربة منظمة التحرير الفلسطينية جملة لأكثر من أربعين عاما من النضال والتضحيات والمعاناة .

أوضاع الفلسطينيين خاصة والعرب عامة تزداد سوءا بعد سوء، وجميع المؤشرات القائمة تبرهن بوضوح أن جميع مشاريع الالوعي.ضرب مشروع المقاومة، تعمل بقوة وبدون عوائق وعلى كل الساحات والأصعدة، فقد صار لنهج التسوية ولمشاريع التصفية أيديولوجية وفكراً وقادة وكوادراً ومنظرين وإعلاميين ومنابراً وأبواقاً، ونجحوا في تشكيل الوعي إلى حد كبير من خلال إمكانياتهم من جهة، ومن خلال برامج التيئيس والإحباط وتحطيم مقومات الصمود من جهة أخرى . حتى أصبح الوعي الفلسطيني يختزل في ذاكرته أحداثا هامة جدا، وكأنها لم تعد قائمة أو لا وجود لها أصلا في ذاكرة الوعي .

كما ألف الوعي الفلسطيني بفعل تلك الأيديولوجية الاقتحامات اليومية والمتكررة للمسجد الأقصى من عصابات المستوطنين وقادة العدو، في الوقت الذي كان اقتحام شارون وعصابته للمسجد الأقصى في يوم الخميس 28/9/2000 في غمرة مفاوضات سرية كشف مؤخراً بين باراك ونتنياهو لتشكيل حكومة وحدة وطنية كانت سببا في إشعال انتفاضة الأقصى . وكان وزير الأمن الداخلي الصهيوني، إسحاق أهارونوفيتش، قد اقتحم باحات وساحات ومصليات المسجد الأقصى المبارك برفقه العشرات من ضباط قوات الاحتلال الصهيوني بعد أن دخلوا المسجد من بوابة المغاربة التي تسيطر سلطات الاحتلال على مفاتيحها منذ بداية احتلال القدس، ولم يؤثر هذا الحدث على الوعي الفلسطيني كما أثر حدث اقتحام شارون للمسجد الأقصى على ذات الوعي الفلسطيني في تلك المرحلة .... فانظر إلى المفارقات !!! .

كما ألف الفلسطينيون ومع الأسف الشديد الانقسام الواقع بين حركتي فتح وحماس، وسيألفون ربما الانقسام المرتقب في حركة فتح والذي لا نتمناه مطلقا. كما ألفوا الاجتياحات المتكررة لجيش العدو وهجمات المستوطنين على مدن وقرى الضفة الغربية، وما يصحب ذلك من قتل وخطف وتخريب للحرث والنسل، بحيث أصبح ذلك في الوعي الفلسطيني عملا عاديا وروتينيا معتاداً لا يستوجب المقاومة .

الانقسام الفلسطيني الذي بات جزءا مألومضامينها.ي الفلسطيني انشطر إلى انقسامات كثيرة، لا تقتصر فقط على الانقسام السياسي، بل تعدت إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، فقد امتد ذلك الانشطار إلى القبيلة الواحدة وإلى الأسرة الواحدة، وإلى المدرسة والعيادة الطبية، والمصنع والمزرعة، مما تسبب في انهيارات أسرية حادة أدت إلى الضياع والحرمان وقطع الأرزاق، وامتد الانشطار حتى وصل إلى مجال الثقافة والأدب والفنون، كما امتد حتى وصل إلى مجال الإصلاح بين الوجهاء والمخاتير من ذات المشرب الواحد أو اللون السياسي الواحد، وحلّت الكراهية بدل المحبة، والفرقة بدل اللحمة، كل ذلك أتى بفعل عمل منهجي منظم بغرض التأثير على الوعي الفلسطيني .

دوائر ومؤسسات منظمة التحرير مفرغة من مضامينها . ومنا من يستعين بالموساد الإسرائيلي للبحث عن أموال حركة فتح وأرصدتها وممتلكاتها (وفق صحيفة يديعوت أحرونوت). لقد اعترفنا بإسرائيل، وألغينا الكفاح المسلح من ميثاق منظمة التحرير، وعقدنا ألوف اللقاءات مع قادة الكيان منذ ما قبل أوسلو حتى اليوم، ووقعنا على اتفاقيات، وشاركنا في مؤتمرات هنا وهناك وفي النهاية، لا قدس ولا دولة ولا لاجئين، ولا حق عودة، ولا حق في المياه ولا وقف للاستيطان، ولا حرية تنقل على الأرض، حتى لو قضينا على كل الفصائل الفلسطينية .

القدس الآن تخضع لمخطط تهويد، يهدف إلى تفريغها من سكانها الأصليين، وذلك من خلال حملات هدم المنازل، وفرض الضرائب، ومنع البناء، وسحب البطاقة الشخصية للمواطن المقدسي، والخدمات شبه معدمة، حتى أن بعض طلبة مدينة القدس يدرسون في حظيرة أغنام ورئيس بلدية مدينة القدس المحتلة (نير بركات ) يعلن عن مشروع قرار لهدم 30 في المائة من البيوت غير المرخصة، ومنح الـ70 في المائة الأخرى وضعاً قانونياً جديداً ليؤكد من جديد أن نيته تتجه نحو هدم عدد هائل يتراوح بين 4500 6000و منزل في مدينة القدس . علما بأن دولة العدو هدمت منذ اتفاقية أوسلو وحتى الآن أكثر من تسعمائة منزل وذلك وفق إحصائية حديثة لجمعية الدراسات العربية، والضرائب على المحلات التجارية وصلت في بعض الأحيان إلى مبالغ تزيد عن رأس مال محتوياتها، مما دفع مئات التجار إلى إغلاق محلاتهم .
لقد حرفوا الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع عربي فارسي، و سني شيعي، وفلسطيني إسرائيلي، والنظام العربي الرسمي يطلب من قيادة العدو في حربيها على غزة ولبنان بعدم وقف القتال حتى اجتثاث حماس وحزب الله .

التعاون الأمني بين الدول العربية وأجهزة الأمن الاسرائلية على أشده وعلى أعلى المستويات، خاصة مع مصر بعد إلقاء القبض على خلية حزب الله، والعدو الإسرائيلي يهدف إلى إقامة علاقات طبيعية بين الطرفين، مستفيداً من تخوف بعض الدول العربية من تعاظم النفوذ الايرانى في المنطقة .وترتيبات سرية لعقد لقاء بين وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك و ومسئول خليجي رفيع المستوى في دولة أوروبية. وهناك تبادلا للمعلومات الاستخبارية بين الأجهزة الأمنية العربية والإسرائيلية للحفاظ على ما اسماه مسئول إسرائيلي بالاستقرار في الشرق الأوسط. والاتصالات العربية مع إسرائيل تتم عبر قنوات عدة وعلى مستويات مختلفة في وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء والأجهزة الاستخباريةتقريبا.ة التي يشرف عليها نتنياهو، بالإضافة إلى وزير الدفاع أيهود باراك الذي تربطه علاقات قوية مع عدد من المسئولين العرب في دول لا تقيم معها إسرائيل علاقات دبلوماسية. والتغلغل الإسرائيلي تحت ستار التنسيق التجاري والعلمي والزراعي والصناعي بات متواجدا في جميع دول العالمين العربي والإسلامي تقريبا .

إسرائيل تستعد لمهاجمة إيران عن طريق البحر مرورا بقناة السويس والمياه العربية . وإإسرائيل.تعد لترحيل عرب 48 بالقوة إلى الضفة والأردن العام القادم من أإسرائيل. إسرائيل . وإسرائيل تصنع واقعا جديدا، والعرب يستهلكون صادراتها ويعانقون قادتها بمن فيهم شيخ الأزهر، ولا زال الشعب الفلسطيني يعيش التهجير والقتل وشطب الهوية، والفلسطينيون في العراق يهجّرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وتشيلي والبرازيل واليونان والسويد. وواشنطن تستقبل أخيرا 1350 لاجئاً فلسطينياً من العراق، أتى ذلك استجابة لمناشدات المفوضية السامية لشئون اللاجئين التي تشرف على برامج إغاثة لما يقرب من ثلاثة آلاف لاجئ فلسطيني، يقيمون داخل معسكرات الذل على الحدود العراقية السورية، ولا زال برنامج إعمار غزة متعثرا ليظل الناس أسرى معسكرات اللجوء الجديدة . فكل الشكر لقادتنا، وكل الشكر للدول المانحة، و لأمريكا وللمفوضية السامية، وللدول التي استضافت المهجرين الفلسطينيين على أراضيها، وعاشت منظمة التحرير الفلسطينية !!! .

الضفة الغربية بدون مقاومة تذكر، والمقاوم فيها أصبح مأجورا يعمل لحساب أجندة خارجية، وعلى جبهة غزة هدوء ما قبل العاصفة والله وحده يعلم بما هو قادم.

الضفة الغربية مقطعة الأوصال إلى درجة انعدام إمكانية قياالعربية.سطينية، بسبب سياسة فرض الأمر الواقع حيث الجدار والحواجز والكتل الاستيطانية، وبرنامج التسوية متعثر، والاحتلال يعربد في كل مكان كما يريد، ويعتبر أي مطالبة له بالانسحاب من هضبة الجولان السورية استفزازا، وطالت عربدته السودان عندما قصفت طائراته قافلة الأسلحة المهربة إلى غزة، وسفينة إيرانية محملة أيضا بالسلاح لقطاع غزة تكتم عنها الإعلام الإيراني والعربي، كما طالت عربدته من قبل المفاعل النووي العراقي والسوري، واستباح الدولة اللبنانية فضرب جميع مرافقها في حربه الشرسة على المقاومة صيف 2006، وهو الذي هدد من قبل بضرب المفاعل النووي الباكستاني، كما ضرب مدرسة بحر البقر في مصر قبل اتفاقية كامب ديفيد المشئومة، وهدم الأبنية السكنية على رؤوس من فيها من الأطفال والنساء والشيوخ في حربه على غزة والتي لم تسلم فيها المساجد ولا رياض الأطفال ولا المدارس ولا المرافق الطبية والمدنية الإنسانية .

حتى في السودان يعربد كما يشاء ويتدخل على شكل بعثات طبية قرب الحدود السودانية، فلا أمن قومي للنظام العربي ولا ما يحزنون . وحالة لا مثيل لها من الاستهتار والتخاذل تبديها الأنظمة العربية .
اليسار الفلسطيني بدأ يلملم أشلاءه المبعثرة فحمدا لله على سلامته، ونتمنى له النجاح، والفلسطيني يموت كمدا وقهرا وهو يرى الوطن ممزقا، ولا أمن ولا كرامة له.

خنوع عربي لا مثيل له تحت شعار الواقعية السياسية، وخطوات التطبيع مع إسرائيل من أجل السلام الموهوم مستمرة، وليت العرب يتعلمون من نتيجة اتفاق الصلح بين النظام المصري والعدو الإسرائيلي، معه. كانت نتيجته إرسال المومسات الإسرائيليات إلى شعب مصر؛ لنشر مرض الايدز بين شبابنا، وتشكيل مجموعات التجسس والخيانة من المصريين المغلوبين على أمرهم، ونشر البضاعة الفاسدة، وتهريب العملات المزورة لضرب الاقتصاد المصري، ومحاولات العدو لشراء أماكن مصرية على الأرض المصرية بأغلى الأثمان لا تتوقف تحت حجة أنها أماكن مقدسة لأجدادهم .

العرب يفتحون مكاتب تجارية لدولة العدو، في المغرب وقطر وسلطنة عمان وقريبا جدا في البحرين وسيسمحون للطائرات الإسرائيلية بالمرور عبر الأجواء العربية، وسيدخلون في مشاريع اقتصادية مشتركة معه .
بن آل عازر وزير دفاع العدو السابق يشرف على تدريب جيش دولة خليجية تحت ستار بعثات تجارية أجنبية واستضافت البحرين وفداً إسرائيليا، قبل أكثر من عشر سنوات، برئاسة وزير العدل يوسي بيلين .

الشيخ خالد آل خليفة وزير الخارجية، يصرح أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006 بضرورة الدخول في تحالف إقليمي يضم تركيا وإيران إلى جانب إسرائيل، باعتبار هذا التحالف اقصر الطرق لحل الخلافات المزمنة في المنطقة، فيا لها من سذاجة !!! .

موريتانيا فتحت سفارة لإسرائيل في نواكشــوط في اوالعرض.ائد لولد الطـــايع أغلقها الرئيس الحالي ولد عبد الـــعزيز .والأردن تثبت حسن الجوار والوفاء مع مغتصب الأرض والعرض .وفي المغرب يزور يهود الكيان كل شالكيان.دون عوائق وكأنه ينتقل من شارع إالعدو.في دولة الكيان . والسعودية تدعو من خلال مبادرتها إلى سلام خمسين دولة عربية وإسلامية مع العدو . والعراق حدث عنه ولا حرج، فمواقع وقواعد عسكرية واستخباراتية إسرائيلية تعمل على أراضيه وتسرق خيراته بحرية تامة . والكويت كانت تحيك وتصنع آلاف الأعلام لدولة الكيان وحق لها ذلك ..... !!!
وليبيا سلمت كل أوراقها وتسمع جعجعة من دون طحين. ولبنان ينتظر على أحر من الجمر تسليم سلاح المقاومة التي أوجعت رؤوسهم . وتونس يتنزه بها الإسرائيليون كما أنهم في مدينة تل الربيع .

العالم يحاصر قطاع غزة بسبب المقاومة، والعالم حريص على إدخال المقاومة بيت الطاعة ؛ لتخلو الساحة عندئذ لا سمح الله لدولة الكيان ومن يحالفه، ويشارك بهذا الحصار النظام العربي الرسمي الذي تمتلئ مياهه وترابه بالقواعد الأمريكية، والذي يعتبر المقاومة الفلسطينية خطرا استراتيجيا وتهديدا امنيا على وجوده .
والعالم يكيل بمكيالين فأسير إسرائيلي واحد تقام له الدنيا ولا تقعد، بينما أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني هم في نظر العالم أرقام فقط، وأسير أمريكي واحد في أفغانستان يجعله الغرب قضية مركزية من قضايا حقوق الإنسان، في الوقت الذي يغفل العالم عن عشرات ألوف المعتقلين العرب والمسلمين وكأنهم ليسوا بشرا .

الأقلام المأجورة والأدمغة المنتفعة التي تصفق وترقص طربا، وتروج لأيديولوجية الاستسلام من خلال مفاهيم التعايش مع العلمية.رضا بالأمر الواقع، هي في الوقت نفسه تعمي أبصارها وتشل أدمغتها عن قول ولو عبارة واحدة: لا للذل والقهر والعار، في الوقت الذي تكشف فيه إسرائيل عن تركيب منظومات إنذار تحت البحر لرصد محاولات التسلل عبر بحر غزة..وهي رابع دولة في العالم مصدرة للسلاح، كما أنها سادس أقوى قوة في العالم، وتنافس أوروبا في المخترعات والاكتشافات العلمية . و تنادي بيهودية الكيان تمهيدا للوطن البديل على اومصر.لبعيد. وحاخامات إسرائيليين يطالبون بحقوقهم في السعودية ومصر . وموشي ديان صرح ذات يوم بأنهم ينسحبون من سيناء اليوم بفعل العامل السكاني الإسرائيلي، وسيعودون إليها غدا .

إسرائيل جنس سامي متميز عن باقي أجناس العالم وفوق كل الأجناس، والمياه.ن يتنفس ببنت شفة حول ساميتها، ويحق لها أن تمتلك القنابل النووية والأسلحة المحرمة دوليا لضرب الفلسطينيين العزل، وتصدر طائرات مقاتلة للهند وطائرات رقابة بدون طيار للصين، وأسلحة ثقيلة لجورجيا، ونحن لا يحق لنا غير صناعة أباريق الفخار فقط لا غير . ولنبق غارقين إلى الأبد في مشاكل الفقر والجهل والأمية والتصحر والمياه .
إسرائيل تسعى لاستقدام يهود العالم الذين سمحنا لهم بالخروج على أيدينا، كان آخرهم يهود اليمن قبل أشهر قليلة ؛ ليساهموا في تشكيل جيشا يذبح ويفتك بنا . وإسرائيل تستعد لشق قناة البحرين ونحن نواجه مشكلات المياه والأمراض والبيئة . التحديات خطيرة والحلول بعيدة المنال والعدو لا يريد سلاما واللهث وراءه من أجل البحث عن الحلول سراب لا ماء فيه، فلا نامت أعين الجبناء، لقد صدق حسن نصر الله عندما قال: )) لن يضحك منا أحد ونحن نضيّع سنوات العمر بانتظار كلينتون وبوش وأوباما وما بعد أوباما من اجل الحصول على حقوقنا فنحن أمام خطر حقيقي يستهدف الفلسطينيين المقيمين بأراضي 1948. ))

الهيمنة الصهيونية على المنطقة بأسرها بائنة المعالم ولا تفعيل ولا حراك للعرب والمسلمين، فقد تم تشكيل الوعي على المقاس الأمريكي والصهيوني .
فماذا ستفعل شعوب العالمين العربي والإسلامي إذا استيقظوا ذات صباح ليجدوا أن المسجد الأقصى تم هدمه لا سمح الله بحجة إقامة الهيكل المزعوم، أو أن أكثر من مليون ونصف فلسطيني من سكان فلسطين المحتلة ( 1948 ) قد هجروا عنوة، أو أن العدو ارتكب حماقات جديدة بحق شعبنا كما فعل في غزة بالأمس القريب ؟ .... لا شك بأنها زوبعة في فنجان لا أكثر، فتبا لكم جميعا أيها العرب والمسلمون !!! .

طرف

جمعها الدكتور عثمان مكانسي
**
كان أحد الأمراء يصلي خلف إمام يطيل في القراءة, فنهره الأمير أمام الناس، وقال له:
لا تقرأ في الركعة الواحدة إلا بآية واحدة .
فصلى بهم المغرب, وبعد أن قرأ الفاتحة قرأ قوله تعالى ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ), وبعد أن قرأ الفاتحة في الركعة الثانية قرأ قوله تعالى ( ربنا اتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا )
فقال له الأمير يا هذا: طول ما شئت واقرأ ما شئت, غير هاتين الآيتين .

** وقف أعرابي معوج الفم أمام أحد الولاة فألقى عليه قصيدة في الثناء عليه التماساً لمكافأة, ولكن الوالي لم يعطه شيئاً وسأله:
ما بال فمك معوجاً, فرد الشاعر: لعله عقوبة من الله لكثرة الثناء بالباطل على بعض الناس.

** سمع أحد المغفلين شيخاً يقرأ قوله تعالى (يتجرعه ولا يكاد يسيغه) فقال:
اللهم اجعلنا ممن يتجرعه ويسيغه.
ــ ونظر مغفل آخر إلى مرآة فأعجبه شكله فقال:
اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه, وسودها يوم تسود وجوه

** جاء رجل إلى الشعبي – وكان ذو دعابة – وقال:
إني تزوجت امرأة ووجدتها عرجاء, فهل لي أن أردها ؟
فقال إن كنت تريد أن تسابق بها فردها !
وسأله رجل: إذا أردت أن أستحمّ في نهر فهل أجعل وجهي تجاه القبلة أم عكسها؟
قال: بل باتجاه ثيابك حتى لا تسرق !
ــ وسأله حاج: هل لي أن أحك جلدي وأنا محرم ؟
قال الشعبي: لا حرج.
فقال إلى متى أستطيع حك جلدي ؟
فقال الشعبي: حتى يبدو العظم .

** دخل عمران بن حطان يوماً على امرأته, و كان عمران قبيح الشكل ذميماً قصيراً و كانت امرأته حسناء فلما نظر إليها ازدادت في عينه جمالاً و حسناً، فلم يتمالك أن يديم النظر إليها
فقالت: ما شأنك ؟
قال: الحمد لله لقد أصبحت والله جميلة
فقالت: أبشر فإني و إياك في الجنة !!!
قال: و من أين علمت ذلك ؟؟
قالت: لأنك أُعطيت مثلي فشكرت , و أنا أُبتليت بمثلك فصبرت، و الصابر و الشاكر في الجنة.

** كان الحجاج بن يوسف الثقفي يستحم بالخليج العربي فأشرف على الغرق فأنقذه أحد المسلمين و عندما حمله إلى البر
قال له الحجاج: أطلب ما تشاء فطلبك مجاب
فقال الرجل: ومن أنت حتى تجيب لي أي طلب ؟
قال: أنا الحجاج الثقفي
قال له: طلبي الوحيد أنني سألتك بالله أن لا تخبر أحداً أنني أنقذتك .

** كان رجل في دار بأجرة و كان خشب السقف قديماً بالياً،فكان يتفرقع كثيراً، فلما جاء صاحب الدار يطالبه الأجرة قال له:
أصلح هذا السقف فإنه يتفرقع
قال: لا تخاف و لا بأس عليك فإنه يسبح الله
فقال له: أخشى أن تدركه الخشية فيسجد.

** سأل مسكين أعرابيا أن يعطيه حاجة
فقال: ليس عندي ما أعطيه للغير فالذي عندي أنا أحق الناس به
فقال السائل: أين الذين يؤثرون على أنفسهم؟
فقال الأعرابي: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً.

** قيل لحكيم: أي الأشياء خير للمرء؟
قال: عقل يعيش به
قيل: فإن لم يكن
قال: فإخوان يسترون عليه
قيل: فإن لم يكن
قال: فمال يتحبب به إلى الناس
قيل: فإن لم يكن
قال: فأدب يتحلى به
قيل: فإن لم يكن
قال: فصمت يَسْلم به
قيل: فإن لم يكن
قال: فموت يريح منه العباد والبلاد.

** دخل أحد النحويين السوق ليشتري حمارا فقال للبائع:
أريد حماراً لا بالصغير المحتقر ولا بالكبير المشتهر،إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت علفه شكر، لا يدخل تحت البواري، ولا يزاحم بي السواري، إذا خلا في الطريق تدفق، وإذا أكثر الزحام ترفق.
فقال له البائع:من أين لي بحمار ذكي، له مثل عقلك يا هذا ؟

** شوهد مؤذن يؤذن ثم يجري بسرعة، فقيل له لماذا تجري كلما ناديت ؟
قال: لأعرف أين يصل صوتي .

** اعتاد أحد المغفلين أن يضع حول عنقه قلادة. فلما نام جاء أخوه، فنزع عنه قلادته ووضعها حول عنقه. فلما أخي؛ ظ المغفل وجد قلادته حول عنق أخيه، فقال له:
يا أخي ؛ أنت أنا، فمن أنا ؟ .

سيد القمني: شجاعة الحقيقة أمام دهاليز الخرافة ..

د.فاطمة قاسم
ما أن تهدأ عواصف الرمال حتى تثور مرّة أخرى، وما أن ينبلج ضوء النهار حتى تبدأ كائنات العتمة في الصراخ والعويل، هكذا هو الحال في السنوات الأخيرة التي يكابدها الكاتب والباحث والمفكر الذائع الصيت الدكتور سيد القمني، الذي لاحق الخرافة اليهودية من جذورها ففضح أستارها الزائفة، والذي يدعو بلا كلل أو ملل إلى عودة العقل العربي والإسلامي من غيبته الصغرى وغيبته الكبرى، حيث مازلنا في هذه البلاد، وبعد مضي أكثر من ألف وأربعمائة عام على الثورة الإنسانية الكبرى، التي قادها رسولنا العظيم محمد بن عبد الله "صلى الله عليه وسلم" نتنافس في النكوص إلى الخلف، فنطفيء قناديل العقل والروح الواحد تلو الآخر، عبر الإغراق من جديد في الإسرائيليات التي احتاجت العديد من كتب التراث، وصفحات التاريخ المنقول، بل وحتى كتب السيرة، والشروحات المطولة في كتب التفسير، لدرجة أن كل ما أنجزه رسولنا العظيم وصحبه الأوائل بجهدهم، وقدح زناد عقلهم البشري، وإخلاصهم لدعوتهم وثورتهم الكبرى، ومواجهة الدنيا بقوانينها، وتغيير الواقع بمعاييره نفسها، جاء البعض ليرجع كل ذلك إلى الغيب، وكأنهم يصنعون قطيعة بين الله والبشر الذين خلقهم ليكونوا ورثته في الأرض، ويعمروها ويطوروها، بما وهبهم من عقل، وما منحهم من جوارح وصفات وجينات.

الدكتور سيد القمني، واحد من كثيرين عبر التاريخ الإسلامي، وهب نفسه للدعوة إلى عودة العقل بدلاً من طغيان النقل، واختار لذلك وسيلة هي الشجاعة بعينها، أن يقرأ من جديد كتب التراث نفسه، وأن ينظر من جديد فيما يلوح به في وجوهنا أهل الانكفاء والنكوص على الأعقاب، فهو لم يعتمد مراجع جديدة، ولم يبحر في بحار أخرى، وقد اكتشف – ويا لهول ما اكتشف – أن الذين يحكموننا وهم موتى في قبورهم ومن ينقل عنهم بتكرار ممل لا جديد ولا إبداع فيه سوى تغيير أغلفة الكتب السميكة، أنهم ينتقون من التراث ما يناسب هواهم، ويشرعن عماهم، ويغفلون ما عداه، إنهم ينقلون عن صفحة ويعتبرونها مقدسة، ويتجاهلون الصفحة التي بعدها ويرونها كفراً مباحاً، ولم يكن من الممكن السكوت على ذلك إلى ما لا نهاية، فتنادت الأصوات منذ زمن بأن الإسلام يستحق الأفضل، والأكفأ الذين يضيئون مساحاته الكبرى ودوره في الحضارة الإنسانية، فكان جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، الكباريتي، وزكي مبارك، وكان العقاد وطه حسين، وعبد الهادي أبو طالب، وكان الشيخ الغزالي، وعبد الحليم محمود، وكان سيد القمني، وخليل عبد الكريم، وسيد العشماوي، وفرج فودة، وحامد أبو زيد، وكان باحثون كثيرون، ومفكرون يواصلون تمزيق الملابس الزائفة التي ألبسها البعض للإسلام سواء من أهله أو المحسوبين عليه والمتعيشين من لحمه، أو من أعدائه الذين يناوشونه جهاراً نهاراً.

الدكتور سيد القمني، في مجموعة كتبه وأبحاثه التي شكلت "فجة" ضوء ساطعة، وصوتاً قوياً، وجهداً غير مسبوق، جعلت أهل العتمة يرتجفون خوفاً وذعراً، كأن هؤلاء عيونهم لا تحب النور، وطرائدهم تتحرر منهم إذا أشرق النهار، وهكذا بدأت معاناة الدكتور سيد القمني، الاتهامات من العيار الثقيل بالكذب والتحريف، وتقويل المفكر ما لم يقله، ونصب المحاكمات التي جعلوا من أنفسهم خلالها قضاة وجلادين في آن واحد، بل وصل المر إلى حد التهديد بالقتل، دون رادع من وعي أو رادع من ضمير.

الدكتور سيد القمني، هذا الكاتب والباحث والمفكر الكبير، وهبه الله سبحانه وتعالى، قدرة على بذل الجهد الذي لا يكل أبدا، وتحمل أعباء هذه المهمة الكبرى – ويا لها من مهمة صعبة من أجل ان ينحاز إلى الحق والحقيقة، وينحاز إلى الوعي الفردي والجماعي، فكان أن أهدى المكتبة العربية والإسلامية والإنسانية أيضاً هذه الأبحاث والكتب عالية القيمة، التي انتشر صداها في كل أرجاء العالم العربي، والعالم الإسلامي، ووجدت لها مكاناً إلى جانب الأبحاث والكتب القيمة في المكتبات العالمية، وهل يوجد اليوم شريحة من المثقفين أو الدارسين أو الباحثين لا تعرف سيد القمني؟

نور على نور، هذه فضيلة العقل الذي دعانا الله سبحانه لكي نحتفي به، ولذلك فنحن نقول، اليوم للدكتور سيد القمني، عندما يعلو نعيق الغربان، تذكر أن عقولاً كثيرة في أرجاء الأرض، وأرواحاً كثيرة في كل مكان، استضاءت بما كشفت من حقائق، واستدفأت بيقين ما بينته للناس، وهذا هو مجد المفكرين.

هذه تحية من الأعماق، ونتشوق إلى كتاب جديد لك يضيء لنا عتمة أيامنا الصعبة.

الشيطان يموت مرتين (1)

بقلم وليد رباح
هذه بضع كتابات عن عالم لا نراه.. غيبي وروحي وما وراء الحس البشري.. بعضه مشتق من كتابات بعض العلماء الذين تحدثوا إلى أناس عادوا إلى الحياة بعد ان ظنوا موتهم، والبعض الآخر تخيلي امتزجت فيه الحقيقة ولكنه يثبت ان هنالك من يرعى هذا الكون بقوة غريبة لا نعرف كنهها.انه عالم ممزوج بكل أنواع الغرابة، فتعالوا معنا في هذه الرحلة العجيبة..
****
حدثني صديقي قال: هل سبق ان زرت مكانا ما للمرة الأولى ثم شعرت انك تعرف هذا المكان من قبل.. وانك رأيته في أحلامك مثلا أو جميلة.يقظتك.. وكانت لك فيه ذكريات قاسية أو جميلة ..
قلت لصديقي: نعم.. هذه حالة تحدث لكثير من الناس.. وقد حدث لي في هذا المجال قصة قد تكون غريبة وعجيبة.. فقد زرت ( الهند) للمرة الأولى قبل سنين طويلة.. ثم تجولت في حارة من حواريها الضيقة التي تكتظ بالسكان و يعيش فيها الفقراء.. فقد نشأت فقيرا وما زلت أحب الفقراء.. ولغرابة الأمر شعرت إنني قد عشت سابقا في هذا المكان بالذات.. وإنني امتلك زخما كبيرا من الصور الغائمة التي تدنيني من القوم كثيرا.. ثم تعرفت إلى بعض البيوت التي يسكنها فقراء الهند وأدركت بحاستي وتخيلي ان تلك البيوت كانت لأناس سكنوا في هذا المكان منذ آلاف السنين.. وزاد الأمر غرابة عندما عددت أسماء ساكني تلك البيوت ما قبل التاريخ.. فقد رأيت عجوزا ضامرا لا تكاد رجلاه تحمل جسده وتخيلت إنني رأيته منذ آلاف السنين.. وزاد الأمر غرابة اكبر.. عندما تذكرت ان له شامة سوداء كبيرة في أعلى الكتف .. وان تلك الشامة كانت سببا في إصابته بمرض مات نتيجته.. إذ كانت في ذلك العهد البعيد جزءا من سرطان أصابه.. ولكني لم اعرف ذلك إلا في هذا العصر الذي تأكد فيه ان الكثير من البثور على الجلد تحوي خلايا سرطانية ..
قال صديقي: هذه حالة مرضية نفسية.. يجب ان تعرض نفسك على طبيب مختص..
قلت لصديقي كلا أيها الصديق ..أريد ان أسألك سؤالا أرجو ان تجيبني عليه بصدق.. قال: تفضل .. قلت: ألم يسبق لك ان رأيت إنسانا ثم كرهته منذ النظرة الأولى دون ان تكلمه أو يكلمك.. أو رأيت إنسانا آخر أحببته منذ النظرة الأولى حتى دون ان يكلمك أو تكلمه أيضا.. قلت: نعم.. قال: في هذا الأمر حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما معناه ان الأرواح جنود مجندة.. ما تآلف منها ائتلف.. وما تخالف منها اختلف.. أو كما قال.
قال: نعم.. هذه حالة إنسانية بحته..
قلت: بل هي حالة تدل دلالة واضحة على ان روحك قد قابلت روح ذلك الذي ألفته أو كرهته فيما سبق من السنوات.. ربما كانت سنوات تعد بالقرون وربما كانت سنوات تعد بالآلاف.. لا أحد يعرف .. وقد كان لصاحبك الذي كرهته أو أحببته بعض الجولات معك.. سواء كانت كرها أو حبا.. ومن هنا فإن روحك عندما اصطدمت بروحه عرفته فورا فكرهته أو أحبته.. ثم تابعت: اعرف ان هذا مناف لعقيدة الإسلام .. ولكنه شعور يجعلك غامضا حتى في تصرفك مع الآخرين ..
قال صديقي: لا أدري بم أجيبك.. ولكني أؤمن بالمحسوسات ولا أؤمن بالغيبيات.. تلك حالة نفسية ربما انسحبت على الكثيرين منا..
قلت: جوابك يا صديقي يؤكالقصة.ظريتي ..اسمع سوف أسرد عليك هذه القصة .. ولسوف تعرف ان هناك عالما آخر لا نستطيع سبر أغواره أو معرفته.. انه فوق العقل البشري ولا يمكن ان يستوعبه عقلنا الذي تحكمنا محدوديته ولا نستطيع النفاذ من تلك الحدود.. فعقل الإنسان كما قيل يتكون من ملايين الخلايا ولم يستعمل منه في هذا القرن إلا ثمانية وعشرين بالمائة.. أما الباقي فلا يزال بكرا ولم يستخدم بعد.
قال صديقي: تفضل..
قلت: سنة 1968 دخلت مجموعة فلسطينية فدائية إلى داخل الأرض المحتلة للقيام بعملية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي.. وعند نهر الأردن ..اصطدمت تلك الدورية بدورية أخرى من جيش الاحتلاوالجرحى.قتال بينهما .. فأوقعت تلك المجموعة في صفوف العدو بعض القتلى والجرحى .. وأوقعت الدورية الإسرائيلية ببعض الفدائيين بعض القتلى والجرحى أيضا.. وتمكنت باقي المجموعة المكونة من اثني عشر فردا ان تحضر أربعة جرحى إلى المنطقة العربية من نهر الأردن.. ثم جيء بهم إلى المستشفيات في عمان..
احتاج هؤلاء الجرحى إلى نقل الدم كي يبقوا على قيد الحياة.. وكنا ثلاثة نجلس في مقهى ذات ليلة .. وإذا بمن يأتينا ليخبرنا ان أربعة من جرحى الفدائيين يحتاجون إلى دم ينقل لهم.. فقمنا ثلاثتنا لنلبي هذا الواجب الوطني..
كان تبرعنا مضاعفا .. إذ كان الوقت متأخرا فيه بدت تباشير الصباح والناس نيام.. استشارنا الطبيب المعالج ان يأخذ كمية من الدم منا فوق المعدل العادي للتبرع.. فوافقنا فورا.. وتوزعنا ثلاثتنا على غرفتين في المستشفى .. وبعد التبرع طلب مني الطبيب ان لا أتحرك من سريري لأنه يريد ان يحضر لي بعض السوائل كي تعوض الدم الذي تبرعت به.. غير ان فتوتي وشبابي أغرياني بمخالفة أمر الطبيب ..إذ كنت أشعر بالنشاط والحيوية فقمت من سريري ولم ابرحه لخطوات حتى أغمي علي ولم ادر ما الذي حدث بعد ذلك.. وبعد ان أفقت أخبرني الطبيب بما حدث وقال لي بالحرف: ان غيبوبتي دامت حوالي الدقيقتين فقط .. وقال لي بأن زميلي في الغرفة الثانية قد حدث له ما حدث لي.. فذهبت إلى الغرفة المجاورة فورا..
كان صديقي مستلق على السرير بعد ان نقلوه من أرضية الغرفة حيث أغمي عليه.. وطالت غيبوبته حتى انتابتني الظنون..إذ تعدت الدقائق الخمس دون ان تظهر عليه بوادر الإفاقة.. وأخيرا بدأ يتحرك..ثم فتح عينيه .. ورآنأنا.نه لم يعرفني .. ورأى الطبيب فسأله بصوت واهن ضعيف: أين أنا ..؟ قال له الطبيب: أنت في المستشفى وقد تبرعت ببعض دمك للجرحى ولكنك لم تستمع إلى أوامر الطبيب الذي حذرك من النهوض من سريرك قبل ان يحضر لك بعض السوائل وتأخذ قسطا قليلا من الراحة .. ولكن بدا على صديقي انه لم يفهم شيئا مما قاله الطبيب.. فدنوت منه وناديته باسمه فلم يعرفني .. ولم يفهم مني شيئا.. وأصابته حالة من الذهول بحيث غدا تائها شارد الذهن كأنه يعيش في عالم آخر..
أمضينا ساعة بالقرب منه ..واجتمع الأطباء في المستشفى حائرين.. ولكنه في النهاية بدأ يستفيق ويتعرف إلى الأشياء القريبة منه.. ثم ينظر إليها باستغراب.. ونظر إلى وجهي وسألني عن اسمي فقلت له: قال.. نعم.. الآن عرفتك وتذكرت ما جرى.. لقد جئنا للتبرع ببعض دمنا للمقاتلين.. وأضاف: ياه.. ما هذه الرحلة الطويلة.. قلت: أيةفيه. تتحدث عنها .. قال ..: هذا العالم الذي نعيش فيه (مزور) مكاننا ليس فيه .. إننا في عالم آخر.. قلتالسنين.ا تتحدث: قال .. أنا أعيش هنا منذ آلاف السنين .. لقد خضت مهزمنا.تغرقت أكثر من خمس ساعات.. كنت ضمن جيش كبير خاض معركة يائسة لبست خلالها درعا حديديا وحملت سيفا ثقيلا وقاتلت عدوا شرسا لا قبل لنا به.. واعتقد انه هزمنا .. فقد كان آخر ما تذكرته ان جنديا مدججا بالحديد ويلبس على رأسه خوذة نحاسية قد نحرني بسيفه.. فقتلني .. وتحسست الدم الذي نفر من جرحي وأغلقت الجرح بكفي .. انظر ثم قلب راحة يده ليرى آثار الدماء ولكنه لم ير عليها نقطة دم واحدة.. فقال: هل كنت أحلم؟.. قال له الطبيب بالتأكيد .. قال صديقي.. كلا ..!! لم يكن حلما ... لقد قاتلت في صفوف جيش كان قائدي فيه اسمه (عبد المجيد)لقد فاجأنا العدو بكمين نصبه لنا بين الجبال والصخور .. واعتقد ان قتلانا كانوا بالمئات.
قلت له مازحا.. إذا كان قائدك اسمه عبد المجيد فلا شك إنها معركة إسلامية ضد الكفر والزندقة.. قال: لا تسخر .. لقد كان الطرف الآخر يلتحف بالدروع من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.. كان قويا.. في البداية فاجأنا ولكننا بعد انالمعركة. الصدمة رددنا له المفاجأة.. لكنهم كانوا يفوقوننا عددا وعدة.. قتلانا وقتلاهم انفردوا على ارض المعركة .. وكنت ترى الرؤوس طائرة كأنها مجموعات من كرات الأقدام التي تملأ الصخور والوهاد وتحملها الريح إلى أمكنة بعيدة..
قلت متصنعا بعض الجد: وماذا كان اسمك ؟؟ قال: لا ادري .. قلت: الم تعرف مكان الموقعة؟ .. قال بلى .. لقد عرفته .. أو خمنت إني اعرفه.. لقد كان معظم الجنود الذي يقاتلون معالعربية.لمون اللغة العربية .. بعضنا كان يتكلمها أما البعض الآخر فلا .. واعتقد ان الموقعة في تركيا أو إيران أو جبال القفقاس أو أوروبا الشرقية .. ولكني اعتقد أنها كانت في تركيا.. وما ذلك إلا لان والدي كان يتحدث أمامي باللغة التركية القديمة واعرف بعض مفرداتها .. ولابد أنها في منطقة قريبة من الوطن العربي..
قلت ضاحكا: ربما قاتلت مع (أتاتورك) أيها اللعين.. فأنت الذي ساعدت على إدخال العلمانية إلى تركيا.. قال: للمرة الثانية ..أقول لك لا تسخر .. اقسم إنني رأيت كل شيء بعيني هاتين (وأشار إلى عينيه بإصبعيه السبابة والوسطى )
انتهى الأمر .. وأعطانا المستشفى سيارة إسعاف لنقلنا إلى منازلنا.. وفي طريقنا إلى البيت أصر على ان نذهب للمقهى .. فذهبنا..
وكم كان استغرابي كبيرا عندما حاول صاحبي ان يتذكر أسماء بعض من في المقهى وقد كان بينه وبينهم ألفة وصداقة ومودة .. وظنه البعض يهزأ فصرفوا نظرهم عنه، وأخذوا يداعبونه بشيء من الجفاء..
قدته في طريقي إلى بيته.. ولم يعرف باب بيته الرئيس إلا عندما نبهته..
مضت بعض الأعوام ربما كانت سبعا أو ثمانية.. واستعاد صديقي ذاكرته كليا.. ولم نعد نتندر سويا على ما جرى له إلا لماما.. وفي غضون ذلك أصدرت كتابي الأول وأخذنا نوزعه على المكتبات شخصيا لجهلنا بأصول التوزيع وبأن هناك شركات متخصصة لتولي هذا الأمر.. وعرض علي صاحبي اقتراحا بأن نسافر إلى مدينة الموصل بالعراق .. حيث يعرف صديقا نافذا يمكن ان يساعدنا على توزيع الكتاب.. وربما رجعنا ببعض النقود فوافقت على الفور..
للبحث صلة

الجزء الثاني:
ركبنا القطار من مدينة حلب إلى الموصل.. وكان القطار يومها يقطع الأراضي التركية دون توقف إلا من محطة واحدة ثم يدخل إلى الأراضي العراقية.. وفي الطريق وقف صديقي إلى نافذة القطار واخذ نفسه يعلو ويهبط فظننته مريضا.. قلت له: أبك مرض أيها الصديق..؟ قال: لا .. ولكن هذه المنطقة الممتدة عبر النظر سبق ان زرتها.. ؟ قلت: هل عدنا إلى هرطقاتك وأحلامك .. قال: لا .. هذه منطقة أعرفها جيدا .. كان نفسه يزاد علوا وهبوطا كلما اقتربنا من منطقة الجبال المطلة على الأراضي التركية ..
وفجأة.. أخذ صديقي حقيبته الصغيرة من الغرفة التي نجلس فيها واخذ يركض في ممرات القطار فتبعته وقد خشيت ان يكون مسا قد أصابه .. وعدما لحقته سألته: ماذا بك ؟ قال .. أتذكر ما قلته لك والأطباء قبل سنوات سبع.. قلت: أتعني أحلامك ( الذهبية) قال نعم.. أحلامي الذهبية.. أريد ان يتوقف القطار هنا .. أريد ان أرى هذه المنطقة .. قلت: أجننت.. القطار لا يتوقف بناء على رغبتك.. قال: إذن سنهبط عند أول محطة للنزول.. قلت له: أجننت؟ ان هذه المنطقة لا وجود للسكان فيها.. أتريد ان تقودنا أحلامك إلى الجحيم .. قال: ان أردت النزول فهيا معي ..وان لم ترد فواصل طريقك إلى الموصل.. أريد ان أتوقف هنا بعض الوقت ..
وخشيت ان يصيبه مكروه فوافقت على النزول عند المحطة الأولى لتوقف القطار.. وسألنا من يعرف المكان فقيل لنا ان هناك محطة على بعد دقائق خمس من هذا المكان .. وهي محطة ليست للراحة إذ لا وجود للسكان أو العمران في هذه المنطقة.. وإننا قد دخلنا الأراضي التركية.. وخمنت ان يصدق صديقي ما قاله الرجل فيعدل عن النزول .. لكنه أصر إصرارا قاطعا على ان يهبط في هذه المنطقة .. وهكذا هبطنا من القطار خفية واختبأنا خلف مبنى المحطة لأن نزولنا في الأراضي التركية يقتضي منا الحصول على تأشيرة دخول للبلاد..
وأخيرا.اجنا إلى مسافة لا تقل عن خمسة أميال سيرا على أقدامنا. . وصديقي يحث الخطى كأنه على موعد ما .. وأخيرا .. ركع على ركبتيه واخذ يبكي ويصرخ بجنون وهو ينظر إلى جبل شاهق بالقرب منا.. قال بعد ان هدأ قليلا.. هذا هو المكان.. هنا مكان المعركة.. قلت بجدية .. أنت مجنون.. ويجب ان تراجع طبيبا نفسيا عند رجوعنا .. قال: أقسم أنني أقول الحق .. سأعطيك دليلا على ما أقول .. قلت: هاته.. قال ..أتعرف أنني ازور هذا المكان للمرة الأولى في حياتي.. قلت: بلا شك، فأنت صديق الطفولة ولو كنت تعرفه لما أنكرت .. قال: خلف هذا الجبل واد ضيق لا يكاد يمر فيه سوى اثنان متلاصقين على الأكثر.. هناك فاجأنا العدو..
قلت: هل لنا قدرة على صعود هذا الجبل.. قال: لقد سبق ان صعدته بعدتي وعتادي ودرعي وسيفي وما احمله من أحمال ثقيلة .. وضحكت ولكني قلت: هيا ..
وصعدنا إلى الجبل.. وعند قمته ظهر لنا واد ضيق لا يكاد يتسع معا.ن وفي مسيرهما معا .. فوجئت .. وأصابتني حالة صدقتني والدهشة معا .. قال صديقي: هل صدقتني .اللعين. أغرب من الخيال .. قال: انتظر قليلا .. تعال معي .. سرنا سويا .. وقرب صخرة كبيرة قال بصوت مرتفع كأنه الصراخ .. اللعين .. لقد طعنني هنا.. خلف هذه الصخرة.. و.. قتلني ..
جلس صديقي ساعة أو دون ذلك وهو مطرق.. كنت خلالها انظر حولي فلا أجد في هذا القفر شيئا.وجودنا. وقع نظري على بيت صغير من القش حوله مزرعة صغيرة على بعد لا يقل عن ميل من مكان وجودنا .. قلت: أترافقني إلى ذلك المكان (وأشرت له إلى البيت) قال نعم.. وسرنا سويا حتى وصلنا .. كانت هنالك عجوز وصبي يجلسان باب بيت القش فاستقبلانا بالترحاب.. ومن حسن حظنا إنهما كانا يعرفان العربية..
سألت العجوز .. ما اسم هذا المكان.. قالت: إننا نسميه الطور ولا ادري أصل هذه التسمية.. قال صديقي للعجوز: كيف تعيشان في هذا المكان الذي لا وجود للحياة فيه.. ردت العجوز بعد ان تفحصتنا بعناية .. أأنتما من تجار الآثار .. قال صديقي على الفور: نعم .. قالت .. لدينا بعض السيوف والحراب الأثرية.. هل تشتريانها .. قال صاحبي .. نعم دعني أراها ..
أثناء ذهابها لإحضار السيوف والحراب قال لنا الصبي .. هذه منطقة فيها رزق كثير.. إننا نعثر في كثير من الحالات على بعض السيوف والحراب والتروس وأدوات الحرب القديمة مغطاة بالرمال حينا وتحت الصخور وفي الكهوف أحيانا..نأخذها فنبيعها لبعض التجار في المدينة.. قلت: وما أقرب مدينة إليكم.. قال الصبي: إنها ميرسين.. عهنا.د نحو عشرين ميلهنا.هنا .
جاءت العجوز فأصاب صاحبي ما يمبها. يكون جنونا حقيقيا: قال .. هذه سيوفهم .. وهذا سيف لنا .. وهذه حربة كان جنودنا يقاتلون بها ..إنني اذكر ذلك جيدا.. ثم هدأ كأنما هناك حالة من الارتياح قد لفته من قمة رأسه إلى أخمص قدميه .. قلنهذه.جوهذه.نا سنعود ثانية لأننا لا نحمل كفاية من النقود لشراء عدة هذه.. قال: إنها رخيصة .. ونحن بحاجة للمال.. قلت لها: على رسلك يا أماه.. إننا لا نحمل شيئا.. فظهر على وجهها الكدر وعادت بعدتها الحربية من حيث أتت.. ويبدو ان تلك العدة كانت مدفونة خلف كوخها ..
ذهبنا إلى الموصل ثم عدنا إلى عمان .. ولم يمض على صاحبي غير سبعة أيام انتقل بعدها إلى جوار ربه دون ان يصيبه مرض معين .. إذ كان مثل الحصان في قوته.. ولكنه مات فجأة ودون سبق إنذار..
قال صديقي: هذه قصة غريبة جدا ..
قلت: إنها أغرب من الخيال..أما زلت لا تعتقد بوجود حياة أخرى نعيشها أو عشناها دون ان ندري..
قال: أنت كنت قد صدقت في قصتك.. فاني أؤمن بذلك.
حدثني صديقي قال: هل قرأت القران الكريم وصورة سيدتنا مريم بالذات ؟: قلت:نعم ...قال ..الم تقرأ معجزة الله في سيدنا عيسى وهو في المهد؟؟ .. قلت: نعم ... قال: الم تسمع في ان بعض الأطفال قد نبغوا في صغرهم نبوغا غريبا؟ قلت: نعم .. فقد غريب.اك (بيتهوفن) الموسيقار العظيم الذي كتب أول سيمفونية وهو في الثامنة من عمره... وهناك أطفالا لا يتجاوزون السادسة حفظوا القرآن الكريم عن ظهر قلب.. وقد سمعنا عن شعراء قالوا شعرا رصينا وهم في الخامسة من أعمارهم.. أليس هذا غريبا؟؟ قلت: نعم..انه غريب .. ولكنه حدث فعلا..
تزوجت في صغري من امرأة عابدة وهي اليوم في رحاب الله .. وأنجبت منها ستة أولاد يعيشون اليوم مع زوجاتهم آمنين مطمئنين.. وكان كل شيء طبيعي في حياتنا إلى ان جاءنا الولد الأخير الذي رزق بستة أولاد أيضا من زوجته الحالية..
سمينا ذلك الصغير محمدا.. وهو محمود حتى اليوم.. وكان بارا بي وبوالدته منذ نعومة أظفاره.. غير انه كان يأتي بأشياء غريبة وعجيبة منذ صغره.. فمثلا .. عندما كان في الرابعة من عمره وكنا نزور مكانا ما يراه للمرة الأولى يقول.. لقد سبق ان زرت هذا المكان .. ثم يصفه وصفا دقيقا قبل ان ندخله .. وبعد ان ندخل المكان نرى ان وصفه كان دقيقا..
في مرة كنا نزور حديقة للحيوان في إحدى المدن.. ووصف لنا أقفاص الحيوانات واحدا اثر الآخر.. ثم ذهبنا إلى أقفاص الثعابين.. تلك التي تعيش مئات السنين وقال لنا: هنا ثعبان من نوع الفيبرا القاتل .. انه ضخم البدن مخيف ذو عينين براقتين حمراوين.. ولكننا عندما ذهبنا إلى الثعبان وجدنا ثعبانا صغيرا الحجم ولكن الأوصاف التي ذكرها ولدي تنطبق عليه.. كان صغيرا ولكنه مخيف.. عيناه حمراوان وذو نظرة نفاذة.. ضحكت وقلت لمحمد.. ها ان أوهامك قد ذهبت سدى.. فهذا ثعبان صغير وديع .. ثم ان إخوته اخذوايبكي.ون عليه.. وجلس في ركن واخذ يبكي .. ودفعني الفضول لكي اسأل حارس الثعابين عن ثعبان كبير كان يعيش هنا فقال الرجل: أنا لا اعرف شيئا.. بإمكانك ان تذهب إلى السجل التاريخي للحديقة .. وهناك سوف تعرف كل شيء..
ذهبت إلى مدير الحديقة تصحبني زوجتي وأولادي.. وتحدث إليه عن ثعبان كبير له مواصفات الثعبان الصغير ماعدا جسمه.. فاستغرب الرجل سؤالي وأجابني: ولكن ذلك الثعبان قد مات منذ ما يقرب من مائة سنة على الأقل.. وهذا رسم له إذ لم تكن الكاميرات قد اخترعت بعد.. من الذي أوحى لك بالسؤال عن ذلك الثعبان .. فأنا لم أره.. ولكني قرأت عنه فقط.. والثعبان الموجود حاليا هو من فصيلته.. وخشية ان يتهمني بالجنون لم اسرد عليه حكاية ابني.. وقلت .. انه الفضول .. لقد قرأت عنه أيضا..
وأخذت صورة الثعبان فشاهدها محمد فأخذ يصرخ ويصيح.. هذا هو الثعبان... هذا هو الثعبان..
أصابنا الوجوم للحظات.. ثم ذهبنا إلى بيتنا ونحن في حالة ذهول كامل..
غير ان محمدا كانت تصيبه حالات من النسيان عندما نزور تلك الأماكن.. وما ان بلغ العاشرة من عمره حتى اخذ هو نفسه يتندر على تلك الحالة التي كانت تصيبه.. وأخذ يقتنع بأنها تخيلات لكنه لم يزل يذكرها بصورة ضبابية..
في مرة جلسنا نتسامر معه وهو في الثامنة من عمره.. قال: اسمي عماد الدين.. وأنا متزوج من امرأة تدعى ساجصالح.ولي ثلاثة أولاد أكبرهم يدعى صالح..أنا فلاح أعيش من كد عرقي ولي بستان جميل أزرعه بكل أنواع الحبوب في كل عام .. وعندما سألناه: أين هو ذلك البيت قال: انه في الهند..
قلت: هذه تخيلات أطفال لا يجب ان يعتد بها.. قال: ربما كانت فقرتنا الأخيرة من تخيلات محمد .. لكنك ما تقول بوصفه للأمكنة قبل ان نزورها ؟؟ قلت: لا ادري..
قال لي صديقي: دعنا من محمد ولنذهب إلى ناحية أخرى..ألم تسمع بمن مات ثم عاد إلى الحياة .. قلت: كلا لم اسمع .. اعرف ان من يموت لا يعود ..
قال: وأنا اعرف ذلك .. ولكن البعض ممن أغمى عليهم لفترات طويلة اعتبروا في عداد الأموات ثم عادوا ليتحدثوا عن تجربتهم مع الموت..
قلت: ان فقدان الوعي ليس موتا.. فالروح لا تزال في الجسد.. وهذا لم يحدث عبر تاريخ هذه الأرض ان تعود الروح إلى الجسد بعد ان تخرج منه..
قال: بل حدث ذلك .. اسمع ما يقوله طبيب بريطاني وهو يتحدث عما حصل له بعد ان اشرف أهله على دفنه نتيجة خروج الروح من جسده وموته طبيا..
يقول الطبيب: تألمت ألما شديدا في صدري .. وغبت عن الوعي للحظات ثم فتحت عيني فوجدت ان أهلي يبكون على جثة أمامهم.. وعندما حدقت في الجثة كانت جثتي.. نفس ملابسي ووجهي ورباط عنقي وبدلتي القديمة التي كنت أحب ان ارتديها لأنها بدلة زواجي.. واستغربت لأنهم يبكون على جثتي .. وحاولت ان اصرخ وان أقول لهم إنني هنا في مكاني قربهم ولكن لم يسمع احد صوتي مع إنني كنت أتحدث واصرخ واسمع نفسي .. لمست أمي التي كانت تصرخ بحرقة ولكنها لم تشعر بلمستي.. وأدركت أننا أصبحنا شخصين في واحد.. جثتي في ناحية .. وأنا شخصيا في ناحية أخرى.. ولكن لا يشعر بي احد..
أرسلوني إلى المستشفى ووضعوا جثتي في الثلاجة.. وجاء بعض الأطباء واخذوا يعبثون بجثتي وأنا أضحك تارة وابتسم أخرى .. ثم أعادوني إلى البيت..
ولما كنت طبيبا مشهورا فقد وضعوني في نعش جميل الشكل .. وجاء المعزون يدورون حول النعش لإلقاء نظرة أخيرة على جثتي .. كنت اضحك من أعماقي وأنا أقول لهم هذا أنا .. لماذا تبكون حول هذه الجثة.. انظروا .. وإنني حولكم ومعكم.. ولكن أحدا لم ينتبه لصراخي ولا لصوتي..
جاء صديقي (مسفيلد) الذي كان يحبني حبا شديدا في حياتي .. إذ كنا لا نفترق .. بكى بكاء مرا وقبل جثتي .. وضحكت وأمسكته من يده وأنهضته وقلت له: مسفيلد لماذا تبكي على جثتي ؟؟ أنا هنا بالقرب منك.. ولكنه لم ينتبه لي أبدا..
بعد كل هذا الاحتفال حملوا النعش إلى مكان آخر في المنزل .. وقام ثلاثة من الرجال بإغلاق النعش بالمسامير الطويلة .. كنت انظر إليهم وأنا مشدوه مما يفعلون.. حاولت ان افهمهم إنني هنا ولا يجب ان يغلقوا على جثتي بمثل هذا الشكل ولكن لم ينتبه لي احد.. وبدا لي إنني أتعامل مع أناس لا يسمعون ولا يرون أو يعقلون..
وفجأة .. شعرت بنفس الألم الذي شعرت به أول مرة عندما أغمي علي.. انتفضت .. وفي لحظة واحدة كنت أحط في داخل الصندوق المغلق.. وأخذت أدقه بعنف وضراوة.. بعدها لم اعد أرى الناس في خارج النعش.. وقد سمعت احدهم يصرخ من الخارج .. انه حي .. لا يزال حيا .. يا الهي.. ان الصندوق يرتجف.. وفتح باب النعش .. إلا ان الرجال الثلاثة الذين كانوا يغلقون ويفتحون الصندوق فروا هاربين وكانوا يصيحون.. انه حي.. انه لا يزال حيا.. وسمعت لغطا لأناس آخرين في الصالة الأخرى..بعضهم يقول: اهربوا ..البعض الآخر يضحك بهستيريه.. الثالث اخذ يجري نحو النعش لاستطلاع الأمر.. ثم جاءت أمي فاحتضنتني .. وهي الوحيدة التي لم تخف عندما رأتني سليما معافى اجلس في النعش جلسة انظر فيها إلى كل الاتجاهات.
قلت لصديقي.. إنها أضغاث أحلام يا رفيقي..
قال صديقي: ربما .. ولكن دعنا نتحدث بما رأى الرجل في رحلته تلك بالتفصيل..
قلت: أو هناك قصة أخرى ..
قال: إنها نفس القصة .. ولكن الطبيب تحدث عن فترة زمنية طويلة جدا كانت في عمر الزمان قصيرة.. عن رحلته عندما رأى الناس يبكون حول نعشه.

يقول الطبيب عن رحلته عندما رأى الناس يبكون حول نعشه:
إنها رحلة طويلة جدا .. ولكنهم قالوا لي بعد عودتي للحياة إنها كانت في عمر الزمان قصيرة .. فقد لبثت حسب قولهم ليس أكثر من ساعتين هي وقت الإعلان عن الوفاة ثم إرسالي إلى المشرحة ثم وضعي في التابوت تمهيدا لدفني.. أما في داخلي فقد كانت الرحلة تعبر من خلال الذكرى لألف سنة أو تزيد .. فقد رأيت عجبا ..
قال صديقي: ربما كان الطبيب نائما يا صديقي وقد تلبسه الحلم ..
قلت: ربما .. ولكن دعنا من الحلم الآن ولتجب على سؤالي .. الم يوضع الرجل في نعش تمهيدا لدفنه .. ثم عاد ليتحدث عن تجربته ..
قال: حسب روايتك .. بلى
قلت: إذن القصة حقيقية بغض النظر عن ما حدث فيها .. قال: ربما ؟ دعنا نسمع
يقول الطبيب: بعد ان شعرت بالألم في صدري شعرت إني أغيب عن الوعي .. فيجتمع الأهل حولي يبكون ويصرخون .. وبعد لآي أفقت فرأيتهم يبكون حول جثتي ويهزونني بعنف.. أمي حاولت إيقاظي بان كشفت صدري وضغطت عليه بقفائدة. في ان يعمل القلب .. لكنها توقفت بعد دقيقتين يائسة وهي تقول: لا فائدة .. يرحمه الله .. وفي غضون الهرج الذي حدث في البيت ظننت أني بقيت فيه أعواما طويلة رأيت خلالها العديد من المشاهد المؤثرة حينا والرائعة أحيانا أخرى..
يقول صديقي: ماذا رأى يا صديقي.. إني بشوق للسماع
يقول الطبيب: عندما كنت طفلا ألهو بين أقراني تعرفت إلى فتاة في مثل سني .. كنا بما يقارب العاشرة.. كنت أحبها حبا طفوليا رائعا .. أول ما رأيته بعد البكاء على جثتي وجه تلك الطفلة التي لم أرها منذ غادرنا بيتنا في جنوب انكلترا قبل ما يقرب من ستين سنة .. وقد مدت إلي يدها لتأخذني إلى عالم ساحر لم أشاهد مثله حتى ولا في أفلام الفرح .. وتحولت فجأة إلى طفل صغير في مثل سنها .. ورأيت والدي الذي توفي قبل ان أولد ولم أراللون.اتي ينتظرني على مفترق طرق لكي يقدم لي باقة من الزهر الأزرق .. وهي أول مرة في حياتي أرى فيها وردا ازرق اللون .. ثم قبلني وقال: سأتركك تلهو كيفما تشاء مع هذه الصغيرة ( وأشار إليها ) ولكنك ستعود إلي سريعا .. أليس كذلك ؟ قلت: نعم سأعود .. فانا بشوق لسماع إخبارك !! قال .. لا أخبار لدي أقولها.. ولكني اسعد يلقياك فنمضي بعض الوقت قبل ان تذهب عني .. قلت: والى أين اذهإليه. مكان لدي اذهب إليه .. قال مبتسما: كل هذا الفضاء الواسع وتقول انه لا مكالديك. .. ضحكت وأخذت بيد صديقتي الصغيرة وانطلقنا فرحين .
وفجأة انقلب المشهد إلى مأساة .. فقد كبرنا سويا في لحظة من الزمن .. فأصبحت هي في السابعة عشرة تقريبا وأنا في مثل سنها.. وفي غضون ذلك .. وحينما كنا نلهو وأتحسس وجهها الجميل جاء رجال ثلاثة يرتدون الأقنعة.. فاستلوها من يدها ولوحوها في الهواء فترة ثم غرس احدهم خنجره في صدرها .. فسقطت تتخبط في دمائها .. وأخذت تستنجد بي فهرعت إليها .. ولكن الرجال اختفوا فجأة ولم اعثر عليهم من خلال نظراتي في كل المناحي .. واحتضنتها بين ذراعي ولكنها نظرت إلي مبتسمة وقالت بصوت واهن ضعيف: وهكذا يا عزيزي مت وأنا في السابعة عشرة من عمري.. إني ابحث عن قتلتي للاقتصاص منهم كل هذا الزمان .. منذ ألف سنة وأنا ابحث عنهم ولا أجدهم.. أنهم يأتونني في كل عام فيمثلون نفس المسرحية التي رأيتها.. يقتلونني ثم ينسحبون ولا أجد لهم أثرا .. هلا ساعدتني في العثور عليهم .. وتضيف الفتاة: منذ أكثر من ألف عام حاول ثلاثة من الرجال اغتصابي وكانوا يضعون على وجوههم أقنعة مخيفة.. تمنعت عليهم وقاومتهم .. وأخذت اصرخ بأعلى صوتي عل احدهم ينجدني .. ولكني لم أر أحدا طيلة الصراخ والعويل والمقاومة.. وفجأة وجدت حجرا منهم. التقطته عن الأرض ورأيتني اضرب فيه رأس رجل منهم .. فقام احدهم بغرس السكين فصدري. .. تماما مثلمرأيت. ..
يقول الطبيب: وما نفع العثور عليهم .. أنهم مثل الهواء لا نستطيع ملامسته .. ثم .. ها أنت تعيشين وتتكلمين وتتألمين .. فدعيهم وشأنهم ..
قالت الفتاه: ولكني يجب ان اقتص منهم .. فهم قتله !!
يقول الطبيب: دعينا مما أنت فيه.. هل تستطيعين السير على قدميك .. قالت .. استطيع حتى ان أطير .. وضحكت فأخذتها من مكان.انطلقنا عبرة الفضاء الرحب.
قال صديقي: إلى أين انطلقا ؟
قلت: ربما إلى لا مكان .. دعنا نستمع إلى الطبيب ..
يقول الطبيب: فجأت تخلت الفتاة عني .. هرعت سريعا إلى رجل آخر طويل القامة أشقر الشعر جميل الهيئة يكبرني قليلا .. قالت بأعلى صوتها بعد ان اتجهت إلي .. سأعود إليك سريعا .. فلا تبتئس . فان تأخرت عليك فانك سوف تجد الكثيرين حولك . ثم اختفت ..
بقيت وحيدا وقد لفتني العتمة.. ثم جاءني البرد فأخذت ارتجف .. ونسيت ان أقول لكم إنني التحف معطفي الجميل الذي لم يكن يفارقني أيام الشتاء .. ولم أكن شيخا كما عهدت نفسي عندما كنت حيا وإنما شاب فتي جميل الشكل قوي الملامح .. واعلم إنني الآن بين الأموات .. ولكني حي المس نفسي وأفكر وأتفقد رأسي فأراه على جثتي يملآ الكون نشاطا .. وتذكرت كيف كان أهلي يبكون حول نعشي فضحكت.. هل حقا إنني مت أم إنني احلم ؟ هل كنت شيخا كبيرا عندما بلغت نهايتي .. ولم استطع الوصول إلى نتيجة .. غير إنني شعرت باني خفيف وكأنما قد ركب لي جناحان .. فأخذت ارتفع قليلا قليلا .. ولكني اكتشفت إنني أعيش في الفضاء .. ولم تكن رجلاي قد لامستا شيئا أثناء وقوفي مع الفتاة أو حتى مع نفسي .. واتجهت إلى مكان بعيد بعيد جدا .. ولا ادري كيف وصلت إليه .. أحيانا يأتي كما الحلم ليقول لي إنني أطير .. وأحيانا أخرى أقول لنفسي بل لقد ركبت طائرة أو مركبة .. دخلت في طريقي غابة جرداء ليس فيها سوى أشجارا واقفة قد تعرضت لحريق ضخم فماتت الفروع ولم يبق غير الجذوع القاسية القوية .. ثم اجتزتها إلى غابة أخرى خضراء يانعة .. ثم إلى بحيرة طويلة جدا احسب إنني قضيت أكثر من عام حتى بلغت نهايتها .. وفي نهاية المطاف سمعت أجراسا تقرع ومناد يقول: دعونا نستمع إلى دفاع الرجل .. يمكن ان يكون بريئا .. ونظرت فإذا بمجموعة كبيرة من الناس يلتفون حول رجل قيدت يداه ورجلاه وسيق إلى محكمة في الهواء الطلق ..

اجتزت بحيرة طويلة جدا احسب إنني قضيت أكثر من عام حتى بلغت نهايتها .. وفي نهاية المطاف سمعت أجراسا تقرع ومناد يقول: دعونا نستمع إلى دفاع الرجل .. يمكن ان يكون بريئا .. ونظرت فإذا مجموعة كبيرة من الناس يلتفون حول رجل قيدت يداه ورجلاه وسيق إلى محكمة في الهواء الطلق ..
يقول الطبيب: حزن هنا وفرح هناك ..
قال صديقي: ماذا يعني بهذه الكلمات
قلت: دعنا نستمع إليه ..
يقول الطبيب: هرعت إلى ركن قصي من الساحة التي تكتظ بمن وقفوا ينتظرون .. فإذا بالرجل المقيد يتقدم الصفوف يرفل بالحديد الثقيل ويسير ببطء وتؤده .. ثم يقف في منتصف الساحة وقد انشطر إلى قسمين طوليين متساويين.. فسار كما نرى في أفلام الرعب .. قسم منه انحاز إلى جماعة تندب وتلطم الوجوه وتصرخ .. والقسم الآخر انضم إلى جماعة أخرى متساوية العدد تقريبا تزغرد وترقص فرحة مستبشرة ..
قال صاحبي: هل هذا معقول يا صديقي .. رجل ينشطر إلى قسمين متساويين فيتلقفه أناس ضاحكون وآخرون حزانى يندبون ..
قلت: دعنا نكمل مسيرة الطبيب الحي الميت .. ولنستمع إليه ..
يقول الطبيب: ربتت على كتف رجل أمامي يقف مشدوها وقلت له: ماذا يجري هنا .. هل ما نراه فرحا أم حزنا .. نظر إلي الرجل وقال: أأنت جديد هنا .. قلت: نعم .. قال .. هذا رجل مات بالأمس .. أولئك الذين يندبون ويصرخون هم أهل الدنيا .. وهؤلاء الذين يفرحون ويهزجون هم أهل الآخرة .. ففي الوقت الذي يرتفع فيه الصراخ هناك ترتفع الأهازيج هنا .. انه يودعون هناك ويستقبلون هنا .. ثم انصرف الرجل عني إلى مكان آخر ورأيته يهتف بملء فمه مع المستقبلين .
يضيف الطبيب: أمضيت عدة ساعات انظر للمتهم المقيد .. بعضهم كان يصرخ انه مجرم والبعض الآخر يصيح انه بريء .. أما الرجل الذي انشطر إلى نصفين فقد عاد سيرته الأولى واجتمع جسده وجلس إلى حجر كبير في وسط الساحة واخذ يبكي.. ثم نظر إلى الجمع وقال:
قد كنت ملء السمع والبصر .. أسير في موكب وتصفق لي العامة على جوانب الطرق .. ولكني مددت يدي للخزائن التي أمرت بان أحافظ عليها .. وعشت كما يعيش الملوك .. وفي ليلة ليست مقمرة .. انقض علي بعض الجنود واقتادوني إلى السجن ومثلوا بجثتي .. وها انتم ترونني ارفل بالحديد الثقيل فهلا أزحتموه عني ..
يقول الطبيب: ضحك الجمع .. ثم انفضوا من حوله وتركوه في العراء وحيدا يعاني البرد والوحشة .. أما أنا فقد انسللت إلى آخر الصفوف انظر خلفي إلى ذلك الرجل الذي بدا جسده يتلاشى حتى تحول إلى نقطة سوداء في ذلك الفضاء الرحب ..
قال صديقي: وماذا بعد ؟
قلت: دعه يكمل يا صديقي ولا تستعجله .
يقول الطبيب: في طريق العودة ولا اعرف إلى أين رأيت بعض ما عجبت له .. فقد رأيت أناسا يقتتلون حول مائدة عامرة بالأطايب ولكنهم ما ان يلمسوا بعض الطعام حتى يتحول في أيديهم إلى حجارة ملساء قاسيه .فتكسر أسنانهم وتؤذي أيديهم واكفهم .. ورأيت نساء يرقصن ويغنين حول كانون كبير من النار عليه الكثير من الشواء ثم يأكلن ويحمدن ويشكرن ولا ادري لمن ؟ ثم رأيت أناسا يقتادونني برفق وهوادة إلى مكان أجلس فيه .. فتحسست مكاني فإذا الكثير من الأشواك تنبت تحت قدمي .. قلت لبعض من قادني .. لماذا أتيتم بي إلى هنا .. قال احدهم .. كي نريك الشيطان يا رجل .. أليست هذه أمنيتك .. الم تكن في حياتك الدنيا ترغب في رؤيته وتنكر وجوده .. قلت: بلى ؟ قالوا .. هذا هو الشيطان ..
يقول الطبيب: عكس ما صورته لنا رسومات الدنيا رأيت رجلا طويل القامة مفتول العضلات جسده السفلي مغطى بالجلود والفرو الكثيف .. أما نصفه العلوي فهو عار يلمع تحت الشمس اللاهبة .. ولكني ما ان اعتليت للنظر إلى وجهه حتى نظرت إلى قروح يسري فيها الدود كأنه أفاع وعقارب .. وإذا بالوجه مشوه لا تدري ان كانت عيناه يمينا أو شمالا .. ان كان فمه نحو الأعلى أو الأسفل .. ولكنه نظر إلي مستغربا وقال: أهذا أنت ؟ كنت بانتظارك منذ آلاف السنين .. قلت: أنا .. لماذا ؟ قال الشيطان: لأنك برئت مني يوم ولادتك وبرئت منك يوم موتك .. وها أنت ذا تأتي إلي لكي أباركك .. قلت: ولماذا تباركني .. أنا ميت وأنت ميت .قال الشيطان: لقد مت منذ زمن نعم .. ولكن تلك كانت ميتتي الأولى .. فانتظر يا هذا ميتتي الثانية ..
يقول الطبيب: اهتز جسدي خوفا ورعبا .. فقد تركني الشيطان وذهب إلى مكان آخر طائرا .. أما الناس الذين كانوا قد تجمعوا فقد اخذوا يضحكون بأصوات عالية منكرة .. ثم ضربني احدهم بعصا غليظة فوقعت على وجهي .. وشممت رائحة التراب فإذا به متعفن لا أكاد أطيقه .. ولكني شعرت للحظة ان الشلل قد أصابني فبت لا أتحرك .. فصرخت وصرخت .. وبعد هنيهة وجدت نفسي وقد أخذت اطرق بابا زجاجيا اقترب من وجهي حتى غدا يلامسني .. ولم استطع النفاذ منه .. صرخت وصرخت .. فإذا بي اسمع ضجة عظيمة وصرخات تقترب مني .. بعضها يتحدث لغتي والبعض الآخر يتحدث لغات أخرى لا افهمها.. وبعد هنيهة فتح الغطاء الذي كان يلفني .. فإذا أنا أمام مجموعة من الأطباء يجسون نبضي ويقول احدهم .. الحمد لله .. عاد قلبه إلى النبض ..
وفي زاوية أخرى من الصالة الكبيرة التي وضعت بها .. رأيت وجه أمي العجوز تصرح كأنما أصابتها نوبة من الهستيريا فباتت تائهة .. ثم جاءت على مهل وضمتني إلى صدرها فوقفت وأخذت أصافح من كانوا بانتظاري ..

عولت على ان لا أتحدث لزميلي عما يختزنه عقلي من أخبار للموتى ممن عادوا للحياة .. وفكرت كثيرا بان ابتعد عن الخوض في هذا الموضوع الشائك لعدم عقلانيته .. فلم نسمع ان أحدا عاد للحياة بعد موته .. لكني بعد ان بحثت في تلافيف عقلي عن أحداث مشابهة يصدقها العقل أحيانا ويخالفها أحيانا أخرى .. تذكرت ما حدث في الهند لرجلين كان احدهما من عامة الناس وكان الآخر من أكابرها .. وهي قصة أو رواية يمكن ان تحدث انقلابا في عقل الإنسان إذا ما تمعن فيها .. ربما كانت صادقة .. وربما كانت من خيالات الناس تناقلوها جيلا بعد آخر ..لكنها مسجلة في أدبيات البعض في الهند ويتلقفونها على أنها حقيقة واقعة ..
قال صديقي: ما الذي حدث هناك .. اخبرني
قلت: سأخبرك .. لكن عليك ان لا تكثر من الأسئلة .. فما تزال الأحداث التي قرأتها منذ سنوات طويلة غائمة في ذهني .. وأحاول ان استجمعها فلا تستعجلني ..
قال: هات ما عندك ؟
قلت: عاش رجل من أكابر الناس في الهند ممن كانوا في مرتبة الأمراء .. وقد تجبر وطغى حتى ضج الناس من ظلمه .. ولكنه في النهاية وقع في حب امرأة أراد اتخاذها خليلة فرق قلبه وأصبح من اخف خلق الله وزنا روحيا .. لكنه لم يتخل عن ظلم من أحبها .. فقد كانت امرأة لرجل فقير من عامة الناس في الهند .. أراد الأمير استخلاصها لنفسه فقام بإجبارها وزوجها على ان تعمل لديه في قصره ليكون قريبا منها .. وتنبه الزوج المسكين لما يخطط له فقام بالتمنع .. لكنه بعد لأي وجد نفسه في السجن بين جدران أربعة.. واقع تحت ظلم السجان الذي لا يرحم .. ومن هنا بدأت القصة .
ولم يستطع صديقي السكوت فاستعجلني .. قلت: هاجم فرسان الأمير بيت المرأة وانتزعوها عنوة من طفلها الرضيع الذي لا يتجاوز الأشهر .. اقتادوها للأمير الذي هش لها وبش وجهه عندما رآها قادمة نحوه .. رجته المرأة ان يرحم طفلها الذي تركته في المنزل فقال لها الأمير: قد كلفت امرأة في القصر ان تتعهده فلا تقلقي .. ويمكنك رؤيته في الوقت الذي تشائين .. لكنك منذ اليوم ملكي ..
قالت المرأة .. إنني امرأة متزوجة .. وقد قبض رجالك على زوجي ولا اعلم أين يحتفظون به .. قال الأمير .. انه في أمان فلا تقلقي .. ولكني أرجوك ان تنسي أمره فأنت اليوم ستكونين محظيتي .. لكن المرأة تمنعت .. وفي غمرة الحديث بينهما جاء من يخبره ان زوج المرأة قد حاول قتل الحارس في سجنه .. فغضب غضبا شديدا فقد على أثره وعيه.. لكن الأمر الملفت ان الأمير بعد استفاقته اخذ يشعر بوخزة في صدره مؤلمة جدا .. وعلم من الحراس ان زوج المرأة السجين اخذ يشعر بنفس الوخزة فيتألم ألما شديدا .. ثم وصلته الأخبار ان الرجل كان يفرح أحيانا فيصيب الفرح الأمير .. وتوصل في النهاية إلى ان روح الرجل قد ارتبطت به .. فلا يفرح السجين إلا عندما يفرح الأمير والعكس أيضا صحيح .. وأخيرا. السجين إلا إذا غضب الأمير.. وأخيرا .. أمر الأمير باستحضار السجين إليه ليكتشف الحقيقة بنفسه .
عندما رأت المرأة زوجها وقد قدم إلى مقر الأمير .. والقيود في يده .. شعرت بأنها تريد إلقاء نفسها عليه ولكن الأمير نظر إليها من طرف خفي فتوقفت .. وعندما وقف الأمير على قديمه لكي يتحدث إلى السجين شعر بان القيود قد انتقلت من السجين إلى يديه .. واخذ يفرك يديه متألما.. وفي غضون ذلك حدثت أشياء مهمة لا يصدقها العقل .. فقد تألم السجين في صدره .. وفي نفس الوقت تألم الأمير في صدره .. ثم وقعا سويا على الأرض جثتين هامدتين ..
صرخت المرأة وهرعت إلى زوجها الذي كان سجينا أغير ان قلبه كان قد تأيضا. وحدث لغط كبير وجاء طبيب القصر وفحص قلب الأمير ولكنه كان قد توقف أيضا .. فأصاب الناس في القصر ذهولا لم يعهدوه من قبل ..
قال صديقي: إنها صدفة عجيبة ان يموت الاثنان معا وقد كان كلا منهما يشعر بما يشعر به الأخير ..
قلت: لا تستعجل الأمور .. فقد حدثت أشياء غريبة يمكن ان تجعلك تفكر ان هذه الدنيا لا تساوي شيئا إلى جانب غيبياتها ..
قال: إني بشوق لسماعك ..
قلت: بعد لآي جاءت والدة الأمير ونصبت نفسها مكان ابنها لأنه ابنها الوحيد .. فأطاع الحضور رغبتها .. ثم أمرت بتكفين الرجلين ودفنهما في قبر واحد ..
أقيم احتفال ضخم لموت الأمير وراجت إشاعات إنهما صديقان لا ينفصلان .. فقد كان في الدنيا سويا وسيجمعهما القبر سويا بعد ان توفيا ..
انتقلت زوجة السجين السابق إلى بيتها القديم وضمت ولدها الصغير إلى حضنها وأخذت تندب زوجها الذي توفي وتبكيه .. وحزن القصر على موت الأمير .. وهكذا دفن الاثنان في قبر واحد واخذ الناس يزورون القبر صبحا ومساء وتنسج الروايات والغيبيات عما يجري في الليل للقبرين ز.
لفقد حلف احد الهنود الثقات ان معركة تقوم كل ليلة بين الاثنين .. تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة التي كانت سائدة .. يقتل الأمير تارة ويقتل الرجل تارة أخرى .. ثم يقومان من مرقدهما الأبدي بعد الموت فيقتتلان ثانية .. ويظلان على حالهما حتى تبزغ الشمس من مكمنها فيتوقفان ويترجلان إلى القبر سويا .. ومن غرائب الأمور ان الرجل الفقير يقدم الأمير عليه في الدخول إلى القبر .. ويتلطف له وكأنه حارس أمين له .. ثم يتكرر الأمر في الليلة التالية من عراك وخصام وأصوات لقعقعة السيوف وصليلها ..
إلى اللقاء .

قال صديقي: هذا أمر لا يصدق .. ميتان يقتتلان دفنا في قبر واحد احدهما من علية القوم والآخر من أدناه .. أليس ذلك عجيبا وفي الهند أيضا ؟
قلت: لا تتسرع .. واستمع إلى بقية القصة
ظل الأمر على حاله لسنة كاملة .. وفي الذكرى الأولى لموتهما جاءت بطانة الأمير إلى القصر ففوجئت بان الأمير الذي مات يجلس على عرشه تماما مثلما كان سابقا .. وبجانبه الرجل الذي دفن في قبره يبتسمان للبطانة وينظران إلى الناس بشوق ومحبه .. أغمي على البعض ممن في البطانة .. وهرب البعض الآخر متوجها نحو الباب فأعادهما الحراس ثانية .. ثم جاءت الأميرة الأم فذهلت .. لكنها تماسكت بعد حين فاحتضنت ولدها الذي تحدث عن رحلته وصديقه فقال:
عندما شعرت بالألم في صدري رجوت ان يكون ذلك عابرا .. لكن الألم تتابع وأصبح لا يطاق .. وبعد دقائق شعرت إنني احلق في الجو فاصطدم بسقف القصر .. لكني تمكنت من اختراق السقف إلى الأعالي فخضت غمار غيوم كثيرة كثيفة في طريقي إلى الأعلى .. وكنت ارتفع وارتفع دون ان أتوقف .. وصادفني في طريقي أمطار وعواصف وثلوج فشعرت ببرد شديد ينخر أعماقي .. لكني كنت ارتفع إلى الأعلى .. وكنت عاريا إلا من شطر بسيط من القماش يستر عورتي .. وأخيرا بعد رحلة استغرقت ربما مئات السنين توقفت عند أناس استقبلوني بالترحاب والزهور .. وكسوني بكسوة جميلة وغطاء رأس أجمل ... ثم قادوني إلى مائدة عامرة بالأطايب فأكلت مالأمير.ت .. وكنت أرى وجوه القوم الذين قتلوا على يدي حراسي فيما سبق يصطفون على جوانب قاعة المائدة ينظرون إلي بشيء من الحقد وكثير من الخوف .. احدهما كان وزيرا لي جاء إلي وقال لي: سيدي الأمير .. قد قتلتني ظلما .. ولكنك بعد هذه المائدة سوف تقتل ظلما أيضا .. فالقصاص من جنس العمل .. فوقعت مغشيا علي للحظات ثم استفقت فإذا القوم ينظرون إلي بشيء من القرف .. وجاء بعده من يخبرني بان أتوجه إلى المحكمة .. فالناس هناك في انتظاري ويريدون معرفة خيري وشري إبان كنت في الدنيا .. فتساءلت .. ماذا تقصدون بالدنيا .. الست فيها ؟ قال احدهم .. كلا يا سيدي .. أنت ميت منذ آلاف السنين وجثتك منشورة في العراء .. ولكننا نجمع أوصالك إلى بعضها كي نحاسبك على ما فعلته في الدنيا .. قال الأمير: فارتجفت من الخوف .. وظننت إنني احلم ففركت عيني مرات ومرات .. غير إنني كنت على يقين باني ميت وان ما أراه حقيقة وليس خيالا ..
ثم مرت طيوف كثيرة أمامي .. احد تلك الطيوف كانت المرأة الفقيرة التي أحببتها .. فإذا بها تحمل سيفا بتارا وتغرسه في صدري .. فتألمت كثيرا .. ووقعت على الأرض مغشيا علي .. وعندما استفقت بعد حين رأيت الناس يبتسمون ويضحكون ويرفعون المرأة على الأكتاف ويهتفون لها .. أغمضت عيني ثانية .. غير إني كنت كمن قام من نومه على كابوس مزعج .. فقد اختفت المرأة واختفى الناس وظللت وحدي .. ونظرت إلى جسدي فإذا أنا عار ليس هناك ما يستر جسدي .. وإذا البرد والريح تأخذانني إلى أعلى .. ثم إلى أعلى .. وظللت ارتفع حتى صادفت في طريقي ذلك الذي مات معي .. انه الفقير الذي استأثرت زوجته فقام باستقبالي وجلسنا سويا على حجر في المقبرة التي دفنا فيها معا .. وبدأنا الكلام .
قال صديقي .. انه أمر مضحك .. أليست هذه من بنات أفكارك تريد إقناعنا بها .
قلت: لقد قرأتها على أية حال .. ربما كانت زائفة وربما حقيقية .. ولكني اعتقد بزيفها أكثر من حقيقتها .
قال: أكمل يا صديقي ..
قلت: تحدث الرجل الفقير ممن انتزعت زوجته منه فقال:
عندما استدعاني الأمير إلى قاعة الملك ورأيت زوجتي بدأت الدنيا تغيم في عيني .. هرعت إلي فاحتضنتها لكنها كانت كما الماء سالت من بين يدي .. وشعرت كأن شيئا قد غطى قلبي وعقلي وعيني فلم اعد أحس أو أرى أو اسمع شيئا.. ثم قادتني قدماي إلى أسفل الأرض في عتمة لم أر فيها شيئا .. كان الظلام حالكا .. وكانت الرطوبة تنخر جسدي مثلما ينخر السيف في اللحم الطري الحي .. غير إني كنت اشق طريقي عبر الطين والتراب مثلما الطائر يخترق الأجواء دون عوائق .. مررت ببحار كثيرة .. ثم رأيت أشياء غريبة وعجيبة ..
قال صديقي: ما الأشياء التي رآها ؟
قلت: يقول الرجل .. رأيت أسماكا هائلة تأكل نساء ورجالا .. ورأيت رجالا يأكلون روث الحيوانات .. ونظرت إلى ديناصورات كبيرة تفترس صغيره .. ودود الأرض يغرس أنيابه التي تشبه الإبر في أجساد رجال ونساء كانوا في نعمة من العيش في الدنيا .. فعرفت إنني ميت ..
غير إني وفجأة استمعت إلى رجل يقول بأعلى صوته: كاإليها.ا .. واقسم على ذلك .. وهكذا ارتفعت من باطن الأرض إلى ظهرها .. واكتشفت إنني ما زلت في المقبرة التي حملها الناس إليها .. فرأيت جنازة كبيرة وسألت لمن تلك الجنازة فقال البعض أنها لأمير البلد الذي مات منذ لحظات .. ووجدت نفسي أسير متجها نحو النعش الذي سجي فيالأمير. .. فاكشف عن وجهه . وابتسم له فيبتسم لي .. وقلت للأمير .. ما الذي أتى بك إلى هنا .. قال الأمير .. هو نفس الذي أتى بك إلى هنا .. وهكذا بدأنا الرحلة سويا ..
دخلنا إلى القبر معا .. وسمعنا الناس يغادرون المقبرة .. وشعرنا كلانا بالبرد .. غير ان الأمير اخذ يرتجف .. ورأيت زوجتي قد قدمت وفي يدها بعض الملابس فأعطت الأمير تلك الملابس ومنعتها عني فقلت لها: يا زوجتي العزيزة .. قد كنا أحبابا فلماذا تؤثرينه علي .. قالت زوجتي .. أنتما الآن تشتركان سويا في كل شيء .. أما أنا فاني ذاهبة إلى ابني الذي ينتظرني .. فلا بأس من ان تتقاسما متعة الدنيا من الثياب .. قالت ذلك ثم اختفت فجأة ..
واختلفنا سويا من يأخذ الملابس حتى يستدفئ جسده .. غير أننا وجدنا نفسينا بعد لأي يمتشق كل منا سيفا كان أمامه ثم يهجم على الآخر.. وخرجنا سويا من القبر فإذا الدنيا ظلاما .. وتقاتلنا .. تصارعنا طويلا .. كان الأمير يغلبني مرة واغلبه مرات .. يغرس سيفه في صدري فانتزعه ثم اذهب إليه واغرس سيفي في صدره .. وما ان يتألم ويشكو ويصرخ حتى يعود ثانية للهجوم علي فاستعد لملاقاته .. وهكذا كنا نمضي الليل سويا فلا غالب أو مغلوب .. كلانا يتألم ولكننا كنا نعاود الكرة ليلة بعد أخرى ..
قال صديقي: ولكن كيف عاد الاثنان إلى الدنيا
قلت: أنت قليل الصبر .. دع الرجل يكمل حديثه ..
يقول الرجل .. جاء في إحدى الليالي رجل إلينا طويل اللحية يلبس خرقا بالية بيضاء متسخة .. قال لنا .. أنتما يا من تقتتلان .. لماذا لا تستريحان فتأتيا إلى القاضي الذي سيفصل بينكما فتعيشان في سلام .
قال الأمير: أو نحن من الموتى أم الأحياء ..
قال الرجل الشيخ: بل أنتما ميتان .. ولكن جثتكما لم تزل طرية فلم يبلها الزمان .. من يدري ؟ ربما عدتما إلى الحياة يوما فتكونان صديقين .. ابعدا هذه السيوف عنكما ولتستعدا للفصل بينكما ..
قال الرجل: شعرت بان شيئا ما ينتشلني من مكاني إلى مكان آخر مختلف .. فتوقفت عن القتال .. وتوقف الأمير كذلك .. ولكننا سويا .. نظرنا إلى وجهينا وكل منا يحمل في يده رغيفا من الخبز .. كنا جائعين فأخذنا نأكل بشراهة وتوجهنا سويا إلى مائدة مستديرة وجلسنا .. وإذا بشيخ يعتمر قبعة جميلة جديدة يضع يديه الاثنتين على أكتافنا سويا ويقول:
هيا .. أنتما منذ اليوم تنتميان إلى عائلة السواسية .. قلت .. ما السواسية .. قال .. هأخرى.ة لا غالب فيها ولا مغلوب حتى يوم الفصل .. قلت ومتى يوم الفصل: قال .. عندما يموت الشيطان مرة أخرى ..

يتابع الصديق سؤاله فأتابع الإجابة ..
تعانقنا سويا .. ثم ودع كل منا الآخر واتجه إلى طريق مختلف .. لم نكن مختارين في سيرنا .. ( يقول الاثنان معا) كنا نسير كأنما شخص يدفعنا باتجاه ما .. وهو عكس اتجاه الآخر .. رأينا أنفسنا نبتعد عن بعضنا حتى بدونا في النهاية كأننا نقطة في الفضاء تصغر وتصغر حتى بدت تتلاشى
يقول الأمير: أحسست بالدفء في البدء .. لكن البرد سرعان ما لفني فبت ارتجف كعصفور بلله رذاذ الصباح .. أخذت أسناني تصطك وأطرافي تتجمد .. ثم رأيت رجلاي تكتسيان بطبقة من الجليد اخذ يعلو ويعلو حتى وصل إلى منتصفهما .. وضاعت أطرافي في إحساسها فلم اعد اشعر بشيء منها .. ثم توقفت عن المسير قسرا .. وتسمرت في مكاني لا ابرحه ..
يقول الفقير: أحسست بالبرد في البدء .. لكن الدفء سرعان ما لفني فباتت حرارتي ترتفع رويدا رويدا حتى ملأ العرق جبيني .. ثم أخذت الحرارة تؤلمني .. ثم تلطع جلدي بشيء من الرعونة والسخونة .. ثم بدأ جلدي يهترىء من جراء الحرارة واخذ يتساقط أمامي مثلما تتساقط أوراق الشجر عن أمهاتها أيام الخريف .. فأخذت اصرخ واصرخ .. وتسمرت في مكاني لا ابرحه .. غير إني كنت اشعر تماما ان صوتي كان يختنق فلا يخرج من حنجرتي .. ذلك ان أناسا كثيرين كانوا يمرون بي دون ان ينتبهوا لي أو ينظروا إلي فأدركت ان صوتي مخنوق ولا يخرج .. شعرت ان جلد وجهي يهترىء .. وأسناني تتساقط .. ثم تساقط شعري .. ومن ثم محجر ا عيناي وأشياء أخرى لا أتذكرها .. فقد أغمي علي حينها ولم اعد اذكر شيئا .
يقول الأمير: كنت في لحظة نوم عميقة .. استفقت بعدها فإذا أنا في قبري .. وقد بدأ الجليد ينفض عن قدمي ويدي شيئا فشيئا حتى غدا ماء .. وإذا بالماء البارد يتحول إلى دافئ .. ثم إلى سخونة لذيذة بعد ذلك الجليد الذي أصابني بالغثيان .. ووجدت نفسي انظر إلى نفسي في النعش الذي وضعت فيه منذ البداية .. حاولت تحريك جسمي فلم يطاوعني .. وأخذت اصرخ واصرخ .. ولكني اكتشفت الأرض.نني اقبع تحت الأرض .. وان الفضاء الواسع الذي أراه ما هو إلا حلما أحاول ان أتذكره فلا اذكر منه شيئا .. انه مثل الماء تلمسه فيسيل من بين يديك دون ان تدركه .. وهكذا رأيتني في لحظة ما وقد جلست إلى صاحبي وقلت له: ما رأيك يا صاحبي ان نعود إلى ما كنا فيه في الدنيا .. واني أعدك ان اترك زوجتك لحالها فلا أتعرض لها .. كانت غلطة وقد أدركت فداحتها . أنتما الاثنان طيبان .. والولوج في عالم تعذيبكما وفصلكما عن بعضكما يعتبر في عرف الأرض جريمة .. فرح صاحبي فرحا طاغيا وقال: تهيأ للعودة فقد أدركنا سويا ان الدنيا لا تساوي جناح بعوضه ..
ويقول الفقير: بعد ان سال عرقي واهترأ جلدي رأيت ان السخونة قد أخذت تغادرني فشعرت بالراحة قليلا .. ثم تتالى ذهاب اللهيب الذي كان يعتور جسدي فإذا أنا اجلس إلى حديقة غناء يهب النسيم فيها على وجهي فاشعر بالراحة العجيبة .. كانت الزهور حولي تنبئ بالرائحة الطيبة فاشعر بأنني قد ولدت من جديد .. أما الناس الذين يؤمون الحديقة الغناء فقد كانوا يتعانقون ويضحكون ولا اعرف لماذا .. لكنهم قالوا لي أخيرا ان اليوم عيد .. وأنهم بصدد إقامة احتفال دعوني إلى حضوره في ذلك المساء .. غير إني قلت لأحدهم إنني أتهيأ للذهاب إلى المكان الذي جئت منه .. فقد اشتقت لابني ..
كنت بالتأكيد احلم .. فقد استفقت من النوم وحاولت النهوض فإذا بي في النعش لا استطيع التحرك .. صرخت وصرخت .. ولكن أحدا لم يسمعني .. وهكذا وجدت نفسي إلى جانب الأمير الذي حاول استئثار زوجتي .. هو ينام على جنبه الأيمن وأنا على الأيسر . فوكزته في جنبه فإذا به يجيب بشيء من الوهن والضعف .. قلت إلا تذهب .. قال إلى أين: قلت .. إلى المكان الذي جئنا منه .. قال: وما الوسيلة التي يمكن ان توصلنا إلى هناك .. قال .. مثلما جئنا سيرا على الأقدام نذهب سيرا .. غير إني لم اجب .. حاولت ان انهض من نومي فقد كنت متمددا على جنبي بشيء من الضيق .. شعر بان يدي قد توقفت عن التحرك .. وان أصابعي قد تجمدت .. وضعت يدي في جيبي فإذا بالجيب لا مستقر لها .. لكني نهضت .. فإذا أنا ممسك بيد صديقي الأمير ونضحك سويا ..
يقول الأمير: نهضت من نومي فإذا بي ممسك بيد صديقي الفقير .. سرنا سويا .. فتحت عيني فإذا بأناس كثيرين مجتمعين يصرخون ويصرخون .. بعضهم فرح والآخر حزين والثالث لا ادري .. لكنهم كلهم كانوا يصرخون فعجبت للأمر.. غير إني فتحت عيني بعد لحظة فإذا أنا اجلس على عرشي .. والناس من حولي يهنئونني بالسلامة ..
يقول الأمير: لم أكن أتوقع ان الأمير سوف يحبني إلى هذا الحد .. فقد قربني منه بعد ان شعرت بالدفء في كلامه المعسول .. وأخذني من يدي وقربني من عرشه فإذا أنا بين يديه على كرسي الملك وهو يقول لي: أنت وزيري .. وأنت يميني .. بل وأنت أخي .. وهكذا صرخ الجميع بصوت واحد .. عاش الأمير .. وعاش الوزير ..
وهكذا بدأنا ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق